يتم التحميل...

مناقشة الرؤية الجديدة للفساد

الحب والعفاف

يقول دعاة الإصلاح إن للضوابط والأخلاق الجنسية القديمة عللاً وأسباباً غير موجودة في الوقت الحاضر، وبالتالي لا أثر لفاعلية تلك العلل في الوقت الحاضر.

عدد الزوار: 28

1- مع دعاة الإصلاح : الرؤية الجديدة للفساد

يقول دعاة الإصلاح إن للضوابط والأخلاق الجنسية القديمة عللاً وأسباباً غير موجودة في الوقت الحاضر، وبالتالي لا أثر لفاعلية تلك العلل في الوقت الحاضر.

فالأخلاق القديمة كانت لوجود تيارات جاهلية ظالمة، قد ناقضت الحرية والعدالة الإنسانية. ومن جملة مظاهر تلك التيارات الجاهلية: تملك الرجل للمرأة، ووجود الحسد عند الرجال، وسعي عدة رجال للتأكيد على بنوة الجنين نفسه لهم، ووجود عقائد تدعو إلى الرهبنة واعتبار العلاقة الزوجية مسألة خبيثة... وإلى ما هنالك من القضايا في هذا الخصوص.

ويوضح أصحاب التجديد أن جذور الأخلاق القديمة تعود إلى نزعة العدوان والظلم عند الرجال، وإلى الخرافات التي كانت تسيطر في تلك الفترة.

أما الآن فقد تحررت المرأة من كل القيود التي كانت تُشْعرها بالدونية، واكتسبت معارف ومعلومات جعلت منها موجوداً مدركاً لحقيقته، فدخلت ميادين متعددة في الحياة كالطب والعلم ووظائف الدولة، حيث أصبحت المرأة تشعر باستقلاليتها وعدم حاجتها إلى التبعية المطلقة.

إذاً، الإصلاح والتجديد يدعوان إلى إجراء إصلاحات حتمية في هذا الجزء من الأخلاق الإنسانية.

ومن البديهي أن كل الاقتراحات الإصلاحية تدور حول محور كسر القيود القديمة وإزالة الموانع والحدود القانونية السابقة.

والذي يثير الاهتمام في هذه الرؤية التأكيد على حرية الرجال والنساء في الحصول على رغباتهم وإشباع غرائزهم، فهم يقولون إن الرجل والمرأة، بالإضافة إلى ضرورة نيلهما كل المتع والملذات بحرية قبل الزواج، فإن العلاقة الزوجية بينهما يجب أن لا تصبح حائلاً دون تحقق هذه الملذات بعد الزواج، لأن فلسفة الزواج هي تأكد الآباء من بنوة الأجنة لهم بعد اختيارهم شريكات الحياة بصورة قانونية.

وقد ساهمت هذه الرؤية في الترويج لحالات الفساد، باعتبار أن الطب الحديث ساهم في حل مشكلة البنوة من خلال منع الحمل، وبالتالي يبقى الشخص حراً في ممارسة رغباته وإشباعها كما يشاء. وقد صرح كبار منظري الغرب بهذه المسألة، فها هو "برتراند راسل" يقول: "إن الموانع (موانع الحمل) جعلت من عملية الإنجاب شيئاً إرادياً خارجاً عن نتائج العلاقات البيولوجية التي لا يمكن تفادي حصولها (الإنجاب القسري للولد)، وبناءً على الأدلة الاقتصادية فإن الأب لم يعد بذي أهمية كبيرة بالنسبة لتربية الأبناء وإعاشتهم، ولهذا فلا ضرورة تقتضي أنْ تختار المرأة الشخص الذي تحبه كأب لأبنائها".

ويضيف قائلاً أيضاً: "إن "أم" المستقبل يمكنها التنصل من هذا الالتزام دون أن يخل ذلك بشيء من سعادتها. وحتى الرجال فإنهم سيستطيعون اختيار أم لأبنائهم بطريقة أيسر وأبسط من ذلك".

ثم إنه يصل إلى النتيجة التي أراد تعميمها، فيقول: "والذين يعتقدون مثلي أن العلاقات الجنسية تكون أمراً اجتماعياً، يجب أن يخرجوا مثلي بهاتين النتيجتين:

أولاً: إن ممارسة الحب بدون أطفال مباحة.
وثانياً: يجب أن تقيد مسألة الإنجاب بقوانين أكثر صرامة من تلك الموجودة في الوقت الحاضر"
1.

2- مبادئ الرؤية الجديدة

يمكن أن نستنتج من الرؤية الجديدة أنها تعتمد على ثلاثة مبادئ أساسية، كل مبدأ منها بحاجة إلى دراسة مستقلة:

المبدأ الأول: إن حرية الفرد مصونة ما لم تضر بحرية الآخرين.
المبدأ الثاني: إن سعادة البشرية رهينة تلك الاستعدادات الكامنة في وجودها، وإن الأنانية والمتاعب الروحية ما هي إلا نتيجة اضطراب الغرائز، وإن أساس اضطراب الغرائز هو حرمانها من الإشباع.
المبدأ الثالث:
إن نار الميل والرغبة عند البشر تتأجج بسبب المنع والتقييد، وتخمد هذه النار نتيجة الإرضاء والإشباع. وكما نلاحظ فإن المبدأ الأول المذكور يتميز بطابعه الفلسفي، والثاني له صبغة تربوية. وأما الثالث فله خصيصة نفسية.

أ ـ المبدأ الأول والفهم الصحيح

إن قضية الحرية هي المبدأ الأساس والقضية المحورية التي تدو  حولها الرؤى الحديثة للعلاقات الغريزية، وبالأخص في العالم الغربي، حيث يعتبرالمجتمع الغربي الحرية هي الأساس لكل الحقوق الفردية، وذلك لأنهم كانوا يظنون أن القضايا الجنسية لا علاقة لها بالمسائل الاجتماعية.

يرى أصحاب الرؤى الحديثة أن حرية الفرد الجنسية لا تتعارض مع حرية أي إنسان آخر، إلا إذا طرأت بعض الموانع، ويقصدون منها بالتحديد مسألة الإنجاب وتحديد البنوة. وقد أكد هؤلاء على أن المسألة أصبحت في حكم المنتهية مع شيوع العلم والطب الحديث ووسائل منع الحمل المتطورة، وبالتالي لا يوجد أي ضرورة تقتضي التحلي بالعفة والتقوى، فالعفة والتقوى قد يتعارضان في الوقت الحاضر مع الحرية، لأنهما يعنيان كبت الغرائز وعدم إشباعها، وهذا يؤدي بدوره إلى الاضطراب.

ونستطيع في هذا البحث تسليط الضوء على نقطتين رئيسيتين هما:
1 ـ إطلاق حرية الفرد إل في حالة واحدة فقط وهي عند الإضرار بالآخرين.
2 ـ انفصال القضايا الجنسية عن المجتمع والحياة العامة والحقوق الاجتماعية إلا في مجال إثبات الأبوة والبنوة.

النقطة الأولى: حرية الفرد وحقوق الآخرين
فلننظر في النقطة الأولى: لنرى ما الذي يجعل من الحرية ما يسمى بالحق الطبيعي للفرد.

1ـ تعارض مبدأ الحرية مع حقوق الآخرين
على عكس ما يتصوره الكثير من فلاسفة الغرب، فإن ميول الفرد ورغباته وإرادته ليست الأصل في إيجاد حق الحرية له، ولا هي الدافع لاحترام هذا الحق. إن الأصل هو استعداد فطري وهبته له الحياة، لكي يتدرج به في مراتب الرقي والكمال. فإذا انسجمت إرادة الفرد مع هذا الاستعداد وأمثاله من الاستعدادات المقدسة المودَعة في فطرته، عند ذلك تكون هذه الإرادة موضع الاحترام والتقدير، كما أنها تكون كذلك إذا أصبحت السبب في دفعه إلى الرقي والتسامي. وبالعكس فلا احترام لإرادةٍ تدفع صاحبها إلى الفناء أو نحو إهدار طاقاته الكامنة.

من الخطأ تفسير أو تصور مسألة خلق الإنسان حراً بمعنى أنه منذ ساعة ولادته يمتلك الإرادة والميل والرغبة الحرة، وأنه يجب احترام هذه الأشياء عند الإنسان إلا إذا تعارضت مع ميول الآخرين ورغباتهم وإرادتهم أو هددتها بالخطر. كما أننا نثبت أن مصلحة الفرد العليا هي أيضاً من شأنها تحديد حريتهبالإضافة إلى حريات الآخرين وحقوقهم.

وقد أدى هذا التفسير الخاطئ للحرية إلى انتكاسةٍ كبيرةٍ في الأخلاق. وحينما يُسأل "راسل" فيما إذا كان يرى نفسه مقيداً بأي من الأنظمة الأخلاقية، يرد بالإيجاب، ولكنه يدعي في الوقت نفسه صعوبة الفصل بين الأخلاق والسياسة.

كما أنه يرى أن تُعرَضَ الأخلاق بهذه الصورة وهي: أن نفترض أن زيداً أراد إنجاز عمل يحمل النفع له والضرر لجيرانه، فعند ذلك  سيجتمع الجيران ويُبدون معارضتهم التامة لهذا العمل، كما سيتفقون على منع زيد من القيام بأي عمل يسيء فيه استغلال حريته الفردية. ويدعي "راسل" أن هذه القضية تحمل في طياتها حالة جنائية تتطابق بصورة كاملة مع العقل والمنطق. ويضيف أن طريقته الأخلاقية من شأنها توفير التناغم والانسجام بين المصالح العامة والخاصة لأفراد المجتمع2.

2 ـ مدى تحرر رغبات الإنسان
إذا كان في "المدينة الفاضلة" لأفلاطون جانب عملي فإن طريقة "راسل" الأخلاقية لا تقل عن هذه في المجال العملي نفسه، لأن "راسل" ينكر دور المفاهيم المقدسة في طريقته تلك، كما أنه لا يقر المعاني والمفاهيم التي يقدمها الإنسان على مصلحته الخاصة والتي يقيد ويحدد بواسطتها ميوله ورغباته وإرادته. كما أن "راسل" يعزو سبب قيام الأخلاق على تلك المعاني والمفاهيم المقدسة إلى "التابو".

وهو يقدس فقط حرية الإرادة والرغبة عند الإنسان، ويرى أن الشيء الوحيد الذي يحدد هذه الرغبة والإرادة ويقيدهما هو معارضتهما ومضايقتهما رغبة وإرادة الآخرين من الناس. ثم يطرح "راسل" هذا السؤال وهو: ما الذي يضمن قبول الفرد بضرورة احترام حريات الآخرين؟ وأية قوة تستطيع أن تحدد حريته تجاه تلك الحريات؟

فيجيب بأنها قوة الآخرين في التصدي والمنع أثناء تعرض مصالحهم للخطر حين قيام الفرد بالاستفادة من حريته الشخصية، عند ذلك لا يرى الفرد بداً من أن يذعن ويستسلم للإرادة العامة، وسيحاول مرغماً تنسيق مصالحه الخاصة مع المصلحة العامة. ولا يريد "راسل" بكلامه هذا غير الإدعاء بأن الحقوق والمصالح العامة تُحفَظ عن طريق المصلحة الفردية. وبهذا يظهر عقم فلسفته الأخلاقية بجلاء. وبديهي أنه لو افترضنا وجود الاستعداد لَدى الأقوياء في كل مجتمع للتصدي لأي عدوان بالاتحاد والاتفاق، وأن الضعفاء في المجتمع يحاولون دائماً مخالفة تيار الأغلبية، فإننا نكون بذلك قد أيدنا راسل في طريقته الأخلاقية السالفة الذكر.
ولكن لنرَ هل هناك تساوٍ في القوة بين الأفراد والجماعات؟
وهل هناك استعداد دائم عند الأفراد والجماعات للاتفاق والاتحاد إذا تعرضوا لعدوان؟
وهل صحيح أن الفرد يقرر دائماً مخالفة مصالح الأكثرية؟

طبيعي أن من يريد ارتكاب العدوان على الآخرين يجب أن تكون لَديه القوة والقدرة الكافيتان للاعتماد عليهما أثناء ممارسة العدوان ذاك.

يوحي "راسل" في نظامه الأخلاقي أن على الضعفاء الخوف من سطوة الأقوياء، وعليهم أنْ يتجنبوا الاعتداء على حقوقهم، ولكن طريقته الأخلاقية المقترحة هذه تعجز عن إعطاء ضمان للضعفاء يردع الأقوياء عن الاتحاد ضدهم. أو عن اعتراض سبيلهم بالقسر في الحياة. أو منع عدوانهم عليهم. بل طريقة "راسل" تبارك في مضمونها عمل الأقوياء وتعتبره لا يتناقض مع الأخلاق أبداً. فلا ضرورة بحسب رأي "راسل" ترغم الأقوياء على تنسيق مصالحهم مع المصلحة العامة. إن هذه الفلسفة الأخلاقية تعطي التبرير القوي للمتسلطين لفرض آرائهم الباطلة وديكتاتوريتهم على الضعفاء. والعجب أن "راسل"  يدعي أنه كرس حياته للدفاع عن حرية الأفراد وحقوقهم، بينما نرى فلسفته الأخلاقية لا تعمل إلا على تثبيت أركان الدكتاتورية. ولم يعدم الغرب فلاسفة آخرين من أمثال "راسل" الذين تبنوا شعارات خيرة ووضعوا فلسفاتٍ تخالف تلك الشعارات كليةً.

النقطة الثانية: القضايا الجنسية والحقوق الإجتماعية
وتتناول النقطة الثانية مدى تأثير الجانب الفردي والخاص في الزواج وتشكيل العائلة الاجتماعية، وإلى أي مدى يترك الجانب الاجتماعي تأثيره في هذا المجال.

1- الحرية الفردية والحياة الإجتماعية
لو رغب رجل وامرأة في إقامة علاقة مشتركة تحت عنوان الزواج، فهل الأفضل لهما أنْ يقيما حياتهما على أساس أن العلاقة الزوجية وسيلة لنيل السعادة والمتَع وأنْ يبذلا أكثر وقتهما لجعل هذه الحياة أكثر سعادة، أم الأفضل نقل هذه العلاقة إلى خارج محيط العائلة، أي إلى المجتمع الكبير، للأزقة والشوارع والنوادي ومراكز التسلية...؟

شدد الإسلام على ضرورة توفير الاستعداد التام في المحيط العائلي لدى الزوج والزوجة لإشباع أحدهما رغبة الآخر، ورفض أي تقصير من أي منهما تجاه الآخر في هذا المجال. وقد أكد على أن المجتمع هو محل للعمل والكسب والنشاط، أما العلاقة الغريزية بين الزوجين فلها مكان آخر بعيد عن أجواء المجتمع الخارجية. ومن هنا كانت فلسفة حرمة النظر الشهواني إلى غير الزوجة. وحرمة تزين الزوجة وتبرجها أمام غير زوجها، وهذا يعني أنه أوصَى بالطريقة الأولى.

واختار الغرب، الذي يعتبره الكثير قدوة له،الطريقة الثانية، وهو اليوم يدفع ثمن ما اختاره وما ارتضاه من ظلم. وإذا ظن بعض الناس أن الحياة ما هي إلا مجموعة من المباهج والأفراح والغرائز وإشباعها، واعتبرنا أن الذي يحصل على أكبر مقدار من الغرائز هو الأكثر حظوة في الحياة، فمن الطبيعي في مثل هذه الحالة أنْ يُصاحب الانتقالمن المحيط العائلي إلى المجتمع الكبير بلذائذ ومباهج أكثر.

ولو أمكننا تصور بقاء الاتحاد الروحي بين الزوج والزوجة واستمرار مشاعرهما الودية المخلصة حتى أيام الشيخوخة، فذلك يعطي الحياة قيمة أسمى وأكبر، ولو تمكنا من تصور الفارق بين علاقة الرجل بزوجته الشرعية، وعلاقته بامرأةٍ غريبة، عند ذلك لن يساورنا أدنى شك في ضرورة حصر المشاعر واللذائذ في الزوجات الشرعيات، وإبقاء هذه العلاقة في إطار العائلة فقط.

2 ـ الأبعاد الاجتماعية للزواج
إن الأبعاد الإجتماعية للزواج هي المسألة الأهم في هذا الشأن، فليس الهدف منه إقامة علاقة خاصة بين الزوج والزوجة، إذ يتضمن الزواج قضية البناء العائلي لإعداد جيل المستقبل، وتوفير الرفاه والسعادة للأجيال القادمة، وكل ذلك له علاقة بالوضع الاجتماعي للعائلة.

إن المحيط العائلي هو البيئة التي تنمو فيها المشاعر والعواطف الإنسانية والاجتماعية، ودفء المحيط الفطري والطبيعي الذي يوفره الأبوان يمنح الهدوء والطمأنينة للطفل.

حينما نريد إثارة مشاعر شخصين تجاه بعضهما، نتوسل القولَ أن أبناء الشعب الواحد أخوة فيما بينهم، أو نقول بأن أبناء البشر تربطهم علاقة الأخوة وهم أفراد عائلة واحدة. وإن القرآن الكريم يُشَبه المشاعر الإيمانية الطاهرة بالمشاعر الأخوية بقولــه: ﴿إِنمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ..3. فليس منشأ هذه العواطف القرابة ووحدة الدم فقط بل إنه المحيط الأخوي المفعم بالمحبة. لو زالت مشاعر الأخوة النابعة من الجو العائلي المليء بالنقاء والمحبة، فهل يستطيع أفراد المجتمع أنيوفروا القليل من الروابط العاطفية فيما بينهم؟

يقال إن العدالة تنتشر في أوروبا بصورة واسعة، بينما لا أثر للعواطف الإنسانية النبيلة لدى المجتمعات هناك إلا القليل النادر جداً. ولا تلاحَظ مثل هذه العواطف إلا نادراً بين الإخوة والأبناء والآباء، على عكس ما هو موجود عند الشرقيين، فلماذا؟

السبب هو لأن العواطف هذه لا تنمو إلا في جو عائلي مفعم بالصفاء والإخلاص والمحبة بين جميع أفراد العائلة.

في أوروبا لا وجود لمثل هذه الخصال بين النساء وأزواجهن، وعلة ذلك عدم وجود حدود للعلاقات الجنسية عند المرأة الأوروبية وزوجها، فكلاهما لا يحده شيء في إيجاد علاقات جنسية مع الغرباء خارج نطاق الحياة الزوجية، وأقلها نيل مُتَع الجنس عن طريق النظر واللمس في وسط المجتمع الكبير.

المبدأ الثاني: مبدأ تربية الاستعدادات الفردية
نبدأ الحديث حول مبدأ ضرورة تربية الاستعدادات الفطرية عند الإنسان والذي يعتبر الركيزة التربوية لهذا النظام الأخلاقي.

يقال، بناءً على هذا المبدأ، إن الإنسان إذا تربى في بيئة تملأها السعادة فَسَيخرجُ فرداً نافعاً للمجتمع، وإن هذه البيئة ستساعد استعداداته الفطرية والطبيعية على الظهور والنمو والازدهار. وكما يساهم نمو الاستعدادات في بهجة النفس ومنحها النشاط الكامل فإنه يحفظ التوازن الروحي للفرد فيبقى في حالة من الهدوء والطمأنينة، وينعكس هذا راحة تامة في المجتمع. وبالعكس فإن كَبْت الاستعدادات عند الفرد سيولد ما لا حصر له من حالات القلق والاضطراب والإنحراف والجريمة في المجتمع.

وإذا كان التركيز في إدانة الأخلاق العاطفية القديمة على كونها تعيق تفتح الاستعداد الفطري الطبيعي الخالص أو ما يسمى بالغريزة العاطفية أو غريزة "الحب"، فإننا لا نخالف ما يقال عن ضرورة تربية الاستعدادات الفطرية وعدم كبتها، بل نوصي الآخرين بذلك نظراً للآثار الطيبة التي تنطوي عليها تربية الاستعدادات والآثار السيئة التي تظهر عند كبتها ومنعها من النمو، وبالإضافة إلى هذا فلدينا طريقة أخرى للاستدلال بواسطة ما يسمى بالدليل "الفني".

1 ـ أهمِية تنمية الاستعدادات الفطرية
نعتقد، في خصوص تنمية الاستعددات الفطرية للإنسان، أن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أي عضو من أعضاء جسم الإنسان عبثاً، ولم يوجِد الاستعدادات الروحية عند الإنسان بدون فائدة. فكما يجب على الإنسان المحافظة على أعضاء جسمه وتغذيتها بالغذاء المناسب كذلك فإن الاستعدادات الروحية يجب ضبطها وإعطاؤها الغذاء الكافي الذي يساعد على نموها. ونحن لم نفترض، عن طريق الآثار والنتائج ضرورة تربية الاستعدادات الفطرية وعدم كبتها، بل معرفتنا بالله هي التي أرشدتنا لذلك. فقبل مائة عام، حين لم يهتدِ الناس إلى النتائج الحسنة لتربية الاستعدادات المذكورة والأضرار الناجمة عن كبتها، أوصى مفكرون- بالاعتماد على الدليل نفسه-، بحفظ أعضاء الجسم وصيانتها، وعدم إهمال القدرات النفسية المودعة عند الإنسان، فلا يوجد- بناءً على ذلك- أي ترديد في ضرورة تربية الاستعدادات بصورة عامة، بل إن مفهوم كلمة "التربية" التي اختيرت منذ القدم لإيصال هذا القصد تعطي المعنى نفسه، فليس للتربية معنى غير المساعدة على النمو والنضج، ولذلك ليس بحثنا في هل نربي الاستعدادات أم نهملها؟

2 ـ الوسيلة الصحيحة لتربية الاستعدادات الفطرية
يتركز البحث هنا في معرفة الوسيلة الصحيحة لتربية الاستعدادات الفطرية عند البشر بحيث لا تؤدي إلى أي نوع من الاضطراب والفوضى والخلل، وإثبات أن التعاليم الإسلامية هي وحدها القادرة على تنمية هذه الاستعدادات، ومنها الاستعداد الجنسي، نمواً طبيعياً. ويولد الإنحراف عن هذه التعاليم الاضطراب والفوضى، بل ويؤدي إلى خَنْق الاستعدادات أو جرحها.

وعلينا الآن أن نلقي نظرة إلى المنطق الإسلامي في الأخلاق والتربية بصورة عامة وموجزة.

الأخلاق الإسلامية وتطهير الوجدان

يعتقد بعض أصحاب النظرة الضيقة أن الأخلاق والتربية الإسلامية تقف في طريق النمو الطبيعي للاستعدادات الفطرية عند الإنسان، ويزعمون أنها مبنية على أساس منع هذه الاستعدادات وكبتها، ويجعلون من التعابير الإسلامية في مجال تهذيب النفس وإصلاحها ذريعة ودليلاً لشن هجومهم هذا. وقد جاء هذا التأكيد في القرآن الكريم بعد تكرار عبارة القسم، قال الله تعالى:﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكاهَا4، أي أن الفلاح يكون من نصيب الذين يطهرون أنفسهم من كل دنس.

ويُفهَم من هذه العبارة القرآنية:

أ- احتمال تلوث وجدان الإنسان.
لا يمكن إنكار أي واحد من هذه الأمور الثلاثة، كما لا توجد عقيدة أو طريقة لا ترى احتمال تلوث الوجدان عند الإنسان، أو لا توصي بضرورة تطهير النفس من ذلك التلوث. فوجدان الإنسان كسائر أعضاء جسده معرض لحدوث الخلل والاضطراب فيه. والإنسان لا يناله من الطبيعة والناس من الضرر بقدر ما يصيبه من نفسه بسبب ما يطرأ على الروح الإنسانية من تلوث واضطراب، لذلك فإن فلاح الإنسان متوقف على طهارة نفسه وتوازنها. وعلى هذا فلا مجال للشبهة مطلقاً في التعبير القرآني الآنف الذكر.

ب- القرآن الكريم والنفس البشرية
وصف القرآن الكريم النفس البشرية بأنها ﴿لأَمارَةٌ بِالسوءِ5، بمعنى أنها تأمر صاحبها بالشر. وهذا التعبير يُوجد في الأذهان السؤال التالي: هل ينظر القرآن الكريم إلى الطبيعة البشرية على أنها شريرة؟ فإذا كان القرآن يرى- من جانب فلسفته النظرية- أن طبيعة النفس البشرية شريرة بالذات، فلا مناص إذاً من أن يختار في فلسفته العملية طريقة تخطئ تربية هذا الموجود الشرير ذاتياً وإنمائه، وتجعل هذا الموجود دائماً ضعيفاً مسلوب القدرة وتضغط عليه وتؤذيه وتمنع كل نشاطاته، بل حتى تقضي عليه أحياناً.

ولكن القرآن الكريم لا ينظر إلى طبيعة النفس الإنسانية من الأساس نظرة نرى أنها شريرة بالذات، بل يرى أن هذه الطبيعة تتمرد في ظروف خاصة ولأسبابٍ وأعراضٍ معينة ويصدر عنها الشر. ومعنى هذا أن القرآن لا يسيء الظن في فلسفته النظرية بطبيعة النفس الإنسانية، ولا يَرى أنها أصل الشر. ولذلك فإن الأسلوب الذي يختاره في فلسفته العملية هو الابتعاد عن كل ما من شأنه تعريض النفس الإنسانية إلى الفناء أو الضعف أو دفعها إلى التمرد.

ج- علل تمرد القوى النفسية
أثناء البحث عن علل تمرد القوى النفسية ينشأ السؤالان التاليان:
1- ما الذي يدفع بالقوى النفسية عند الإنسان إلى التمرد والاضطراب والفوران؟
2- وكيف السبيل إلى إعادة الهدوء لهذه القوى وإرجاعها إلى حالة التوازن؟

السؤال الأول: ما الدافع إلى التمرد؟
وثانياً:
أن تطهير الوجدان من هذا التلوث يكون في يد الشخص نفسه.
وثالثاً: أن القرآن يوجب تطهير الوجدان من التلوث الحاصل فيه، ويرى أن سعادة الإنسان وفلاحه متوقفان على هذا التطهير.

ما الذي يدفع القوى النفسية عند الإنسان إلى التمرد والفوران؟
اكتفى أصحاب النظرة الضيقة، وبمقدار ما عرفوا أن الإسلام قد ذكر النفس البشرية بأنها ﴿أَمارَةٌ بِالسوءِ، بهذا القدر دليلاً لاتهامهم الأخلاق والتربية الإسلامية بأنها تسيئ الظن بالاستعدادات الفطرية والمصادر الطبيعية للوجود البشري، وأنها ترى إن طبيعة النفس الإنسانية شريرة بالذات، وأنها ترى من الخطأ تربية هذه الاستعدادات، وما إلى ذلك.

من الواضح خطأ هذا التصور. وإن كان الإسلام قد ذكر حقيقةً أن النفس البشرية ﴿أَمارَةٌ بِالسوءِ ولكنه سماها في مكان آخر بـ ﴿النفْسِ اللوامَةِ أي أنها تلوم صاحبها عند ارتكابه الشر، كما وصَفَها في مكان ثالث بـأنها ﴿النفْسُ الْمُطْمَئِنةُ أي التي وصلت إلى مرحلة الهدوء والكمال.

نفهم من ذلك أن طبيعة النفس الإنسانية (من خلال نظرة القرآن الكريم) يمكن أن تمر بثلاث مراحل، ففي إحداها تأمر بالشر أو السوء، وفي الثانية تلومه لارتكابه الشر، وفي الأخيرة يصيبها الهدوء والسكينة ولا تدور حول محور الشر والسوء.

وعلى هذا الأساس فالإسلام لا يرى شراً ذاتياً في طبيعة النفس الإنسانية، وفلسفته العملية لا تتبع طريقة القضاء على القوى النفسية أو على الأقل كبتها أو حبسها، كبقية الأنظمة الفلسفية أو التربوية.

إذا كان موضوع دفع النفس البشرية لصاحبها إلى ارتكاب الشر  في بعض المراحل أو الظروف وخلقها حالة خطيرة بسبب ذلك، يلفه الغموض في الماضي البعيد، فاليوم وعلى أثر التقدم الحاصل في مجال علم النفس والبحوث النفسية أصبح شيئاً طبيعياً لا لبس فيه.

اللافت للانتباه أن القرآن الكريم عند وصفه للنفس الإنسانية لم يطلق عليها "داعية السوء" بل قال عنها إنها ﴿أَمارَةٌ بِالسوء، وهو يريد بهذا التعبير أن يبين أن العواطف والمشاعر النفسية عند الإنسان إذا تمردت لا تدفعه إلى الجريمة والأعمال الانحرافية بل تتحكم فيه كسلطة ديكتاتورية مستبدة. والقرآن الكريم بذلك التعبير يبين هذه السيطرة والهيمنة الطاغية للقوى النفسية التي تعيش حالة التمرد على الاستعدادات الإنسانية الساميَة. وهذا سر لم يكتشفه علم النفس إل في الفترات القريبة.

ثبت اليوم أن المشاعر المنحرفة تتحكم أحياناً وبشكل ظاهر في جهاز الوعي عند الإنسان فتفرض نفسها بالقسر والقوة عليه. ويقوم جهاز الإدراك عنده وبصورة لا إرادية بتنفيذ الأوامر الصادرة عن هذه المشاعر.

السؤال الثاني: كيف نعود إلى التوازن؟

ما هو السبيل إلى إعادة الهدوء لهذه القوى وإرجاعها إلى التوازن؟ سنتعرض لبحث للجواب على السؤال الثاني أثناء الحديث عن قاعدة الأخلاق الجنسية الجديدة أي في بحث "الأساس النفسي" لهذه الأخلاق تحت عنوان " الشعور بالحرمان أسهل الطرق للأمراض النفسية".

يمكن أن يُطرح سؤال نابع من طريقة خاصة في فهم الدين، وهو: لو كانت الأخلاق الإسلامية ترى أن الاستعدادات الطبيعية للإنسان يجب أن لا تُمس بسوء، فما هو معنى قتل النفس، أو إماتتها، هذا التعبير الذي يرد أحياناً في المحافل الدينية أو على الأقل على لسان معلمي الأخلاق الإسلامية؟ ماذا يعني هذا التعبير وأي مفهوم فيه؟
والجواب على هذا السؤال
هو أن الإسلام لا يدعو إلى إبادة الطبيعة النفسية أو الاستعداد الفطري، بل يأمر بالقضاء على النفس الأمارة بالسوء. وكما أسلفنا فإن النفس الأمارة بالسوء تمثل الاضطراب والفوضى ونوعاً من التمرد والعدوان اللذَين يظهران على وجدان الإنسان لأسباب معينة، فقتل النفس الأمارة بالسوء ليس معناه إلا إطفاء نار الفتنة والتمرد في القوى والاستعدادات النفسية. وإطفاء نار الفتنة يختلف عن قتل القوى التي تولد الفتنة. وإن إخماد نار الفتنة سواء أكانت اجتماعية أم نفسية لا يستدعي القضاء على الأفراد أو القوى التي سببت تلك الفتنة، بل يستلزم إزالة العوامل التي دفعت بالأفراد أو القوى إلى الفتنة. ويجدر أن نضيف هنا أن التعابير الدينية لا تتضمن عبارة بمعنى "قتل النفس"، وما تتضمنه لا يتجاوز بالطبع الموردَين أو الثلاثة، وقد أتت بصورة "إماتة النفس".

المبدأ الثالث: مبدأ أضرار الكبت

تشير البحوث والاكتشافات التي تمت في القرن الأخير إلى أن كبت الغرائز والميول يسبب الكثير من الأضرار وحالات القلق والاضطراب، وتبين أنْ لا أساس للمبدأ الذي قَبِلَه أكثر المفكرين القدماء والقائل

بأنه كلما بقيت الغرائز والميول في حالة الضعف فذلك سيفسح في المجال لغرائز وقدرات أسمى- وخاصة القوة العاقلة- من أجل البروز والتفتح أكثر والعمل بدون أي معوق. فالغرائز التي تُكبت ولا يتم إرضاؤها تطوي حوادث غير مُدْركة تكلف البشرية أثماناً غالية على الصعيدَين الفردي والاجتماعي، ومن هنا يفترض تجنب كبتها وتجنب عدم إرضائها بالشكل المقبول كي لا تُنتج آثاراً تخريبية.

1 ـ الشعور بالحرمان أسهل الطرق للأمراض النفسية

يعتقد الكثير من علماء النفس أن جذور الأمراض النفسية والعصبية والاجتماعية تعود إلى الشعور بالحرمان وبالأخص في دائرة الأمور الغرائزية والجنسية.
ويؤدي الحرمان في الكثير من الأحيان إلى عُقَدٍ عند الإنسان تظهر في بعضَ الأوقات على شكل خصال خطيرة كالنزوع نحو الظلم والجريمة والحسد والإنزواء...إن ما تقدم هو جوهر وموضوع الأضرار الناجمة عن كبت الغرائز، وهي من أكبر الاكتشافات القيمة في مجال علم النفس.

والسؤال المطروح: إذا كان الفضل يعود إلى علماء النفس في الكشف عن هذه الأضرار فلماذا لم تتم الاستفادة من هذا المبدأ وبالتالي العمل على اجتثاث العديد من الأمراض التي تعاني منها البشرية؟؟
الجواب:
إن تعقيدات المسائل النفسية وتعدد جوانبها من جهة، وعلاقة الموضوع بميول الإنسان التي تتدخل بصورة أو بأخرى في إعماء البصيرة من جهة أخرى، لم تترك مع الأسف مجالاً للاستفادة التامة من هذا المبدأ، بل ساهمت طريقتهم في التعامل معه
في ظهور الخلافات بينهم وزيادة ما يكبت الغرائز وإيجاد الآثار النفسية والاجتماعية الخطيرة الناجمة عن هذا الكبت.

تشير الإحصاءات إلى ارتفاع حالات الأمراض العصبية والجنون والانتحار والجرائم والإرهاب والفوضى واليأس وسوء الظن والحسد والحقد بصورة رهيبة بسبب تفسير مبدأ عدم كبت الغرائز بإطلاق الحرية للميول والأهواء، أي رفع القيود والحدود والقوانين كافة.

والغريب أن عبادة الشهوة التي كانت تُعتبَر منافية للأخلاق وعنصراً للإخلال في الهدوء الروحي، أصبحت ذات معنى آخر مع تبدل القيم، وأضحت مخالفة الشهوة والتزام العفة والتقوى وقبول الحدود والقيود الاجتماعية عوامل من شأنها إفساد الهدوء الروحي والإخلال بالنظام الاجتماعي.

وعلى وقع هذه الأمور أخذت تتعالى الصيحات لرفع القيود والحدود باعتبار أن ذلك يساعد في قلع جذور العدوان، وارتفعت نداءات نبذ العفة، بدعوى أن نبذ العفة يؤدي إلى استقرار النظام في المجتمع.

لقد جذبت هذه النظريات الكثيرين إليها، الذين أخذوا ينادون بالمطابقة بين الأهواء والنزوات والأخلاق الإنسانية. ولكن ما هي النتيجة التي تمخضت عنها تلك المحاولات؟ هل زالت الأمراض النفسية؟ وهل حَل الهدوء الروحي مكان الاضطراب والرعب؟

في الواقع كانت النتيجة عكسية، حيث أضيف شقاء جديد إلى شقاء الإنسانية، فأدى ذلك إلى تخلي بعض دعاة الحرية الجنسية عن أقواله متذرعاً بالتفسير والتأويل والإدعاء بأنْ لا مفر من قبول الحدود الاجتماعية والإذعان بعدم إمكانية إشباع الغريزة بصورة كاملة، وأنه لا مناص من صرف الذهن إلى قضايا الفن والفكر وترويض الغريزة حتى تهتدي إلى هذه الأمور.

2 ـ الثورة الفكرية والغريزة البشرية
أدت الأخلاق التي دعا إليها الكثير من مفكري الغرب إلى اضطراب الغرائز والميول، فبرزت ظواهر اجتماعية خاصة. نحن نشاهد بأم العين أن شباب اليوم يتهربون من الزواج بشكل ظاهر، كما أن قضايا الحمل والإنجاب بدأت تثير اشمئزاز المرأة، وأصبحت النساء لا تعير اهتماماً كبيراً لإدارة شؤون البيت، حتى أضحت حالات الزواج التي يتوفر فيها الاندماج الروحي بين الزوجين نادرة وقليلة. إن ظهور هذه الحالات نابع مما يطلق عليه اليوم "الثورة الفكرية"، وهناك أشخاص معدودون يتحملون وزْرَ هذا الشقاء الذي تعاني منه البشرية.

في الواقع فإن مسألة اشباع الغريزة وعدم كبتها هي قضية، والحرية الجنسية ورفع المعايير الأخلاقية قضية أخرى. واشباع الغريزة لا يتنافى مع مراعاة مبدأ العفة والتقوى، بل في ظلال هاتين الخصلتين فقط يمكن اشباع الغريزة إلى حد كافٍ يمنع حالات القلق والشعور بالحرمان والكبت النابع منها.

وبعبارة أخرى فإن تربية الاستعدادات تختلف عن مسألة حرية الأهواء والنزوات والآمال اللامتناهيَة.

إن ما يميز الإنسان عن الحيوانات صنفين من الميول والأماني التي تكون عند البشر فقط وهما الأماني الصادقة والأماني الكاذبة. والأماني الصادقة تعبر عن الطبيعة الفطرية للفرد، فهو يمتلك ميولاً طبيعية تدفعه نحو حماية ذاته وميولاً لكسب القوة والسيطرة وتنمية الأمور الجنسية والأكل وما شابه ذلك. ولكل واحد من هذه الميول حكمة خاصة به.

إن هذه الأمور كلها محدودة ولكنها تصلح لأن تكون أرضية لأمنية كاذبة. فالميل والرغبة إلى أنواع الطعام عند الإنسان مشهودة ومعروفة للجميع.
وتظهر الأمنية الكاذبة في بعض الميول والغرائز ومنها الغريزة الجنسية على شكل عطشٍ أو نهمٍ روحي فلا تعرف طريقاً للقناعة والانتهاء. وفي حين يمكن اشباع الغريزة الطبيعية يستحيل ذلك في الأمنية الكاذبة وبالأخص إذا كانت على صورة عطشٍ أو نهمٍ روحي.

3 ـ الفارق بين الإنسان والموجودات الأخرى
إن الخطأ الذي ارتكبه أصحاب الأخلاق الحرة بهدف الحد من كبت الغرائز وتنمية الاستعدادات أنهم تجاهلوا الفرق بين الإنسان والحيوان، ولم يلتفتوا إلى أن الميل اللامتناهي متأصل في طبع الإنسان، فالبشر سواء في القضايا المالية أو الاقتصادية أو السياسية أو في الأمور الغريزية لو فُسح لها في المجال للمضي قدماً لسارت دون أي توقف.

إذا قلنا أن الإنسان محدود في حاجته إلى الغرائز والتسلط والتملك والجنس أو إنه قابل للاشباع، فنكون بذلك قد نفينا الحاجة إلى كل هذه القوانين الموضوعة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية، لأن محدودية الغرائز وإمكان اشباعها لا تخلق دافعاً لتجاوز الحد والذهاب إلى ما بعد حالة الاشباع.

ولكن ولما كانت الحاجة موجودة وملحة للقوانين والحدود والقيود السياسية والاقتصادية والاجتماعية وكذلك الحاجة إلى التحلي بخصلتَيْ العفة والتقوى في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية فكذلك يجب أنْ تكون هناك حاجة إلى الأخلاق التي تحدد العلاقات الجنسية وإلى العفة والتقوى في هذا المجال.

*الحب والعفاف, سلسلة تراثيات إسلامية, نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- كتاب زناشوئي وأخلاق، الزواج والأخلاق ص122.
2- جهانى كه ميشناسم العالم الذي أعرفه، ص64 ـ 65
3- الحجرات: 10
4- الشمس: 9.
5- يوسف: 53.

2013-02-12