يتم التحميل...

الحياة السياسية للإمام السجاد عليه السلام-2

الحياة السياسية

إن هدف جميع الأئمة عليه السلام بما فيهم الإمام السجاد عليه السلام كان إقامة الحكومة الإسلامية، وأن تحقيق هذا الهدف استلزم من الإمام السجاد عليه السلام القيام بثلاثة أدوار بدونها لم يكن من الممكن إقامة هذه الحكومة.

عدد الزوار: 18

إن هدف جميع الأئمة عليه السلام بما فيهم الإمام السجاد عليه السلام كان إقامة الحكومة الإسلامية، وأن تحقيق هذا الهدف استلزم من الإمام السجاد عليه السلام القيام بثلاثة أدوار بدونها لم يكن من الممكن إقامة هذه الحكومة.

الأول: تعريف الناس على الفكر الإسلامي الأصيل. هذا الفكر الذي دفن تراب النسيان نتيجة حكم الظالمين طوال ذلك الزمان، أو تعرّض للتحريف في عقول المسلمين. فكان على الإمام السجاد عليه السلام أن يقوم بتعريف الناس على الحقائق الإسلامية والأصول الدينية بكل ما أمكنه من قوة وبأكبر درجة تصل إليها أمواج كلماته وتعاليمه.

الثاني: تعريف الناس على حقيقة قضية الإمامة، وبتعبير اخر بيان مسألة الحكومة الإسلامية، والحكم الإسلامي الحقيقي وتوعية المجتمع الإسلامي على حقيقة مجريات ذلك الزمان الذي شهد حكم الظالمين، والكفار والفاسقين، وإفهامه بأن حكومة عبد الملك وأمثالها ليست الحكومة التي يريدها الإسلام. فما دام الناس غير مدركين لهذه القضية ولم يخرجوا من حالة التخدير التي تفاقمت على مرّ الزمان، فإن إقامة الحكومة التي يريدها الإمام السجاد عليه السلام سوف تبقى غير ممكنة.

الثالث: تشكيل مجموعة لتأسيس حزب يكون أعضاؤه كوادر أساسيين لجهاز الإمامة.
وبهذه الأمور الثلاثة سوف تتهيأ أرضية إقامة الحكومة الإسلامية والنظام الإسلامي.

لقد قلت سابقاً وأؤكد ما قلته الان بأن الإمام السجاد عليه السلام لم يكن يرى أنه سيتم تحقيق الحكومة الإسلامية في زمانه (وهذا بخلاف ما عمل لأجله الإمام الصادق عليه السلام) فالأرضية لم تكن معدة لذلك، وكان الظلم والقمع والجهاد كبيرين إلى الدرجة التي تصعب إزالتها خلال هذه السنوات الثلاثين. وكان الإمام السجاد عليه السلام يعمل للمستقبل. ومن خلال القرائن العديدة نفهم أيضاً أن الإمام الباقر عليه السلام لم يكن يهدف إلى إقامة حكومة إسلامية في زمانه، أي أنه منذ سنة 16 حتى 59 ه (شهادة الإمام السجاد عليه السلام) ومنذ سنة 59 حتى 411 ه (شهادة الإمام الباقر عليه السلام) لم يسع كل منهما إلى إقامة حكومة إسلامية في زمانه ولهذا كانا يعملان على المدى البعيد.

وسوف نستشهد على ما قلناه بكلمات وبيانات الإمام السجاد عليه السلام لأنها أفضل المصادر وأكثرها أصالة للتعرف على سيرة حياته عليه السلام بل على حياة كل الأئمة عليه السلام. غاية الأمر وكما أشرنا سابقاً أننا نفهم هذه البيانات بصورة صحيحة عندما نطّلع على حركة الأئمة عليه السلام ومقصدهم من الجهاد والمواجهة والسعي والسير، وبغير هذه الصورة قد يساء فهم معاني هذه الكلمات، التي سوف أبينّها، إن شاء الله.

والان بعد أن اطلعنا على بعض تلك الحوادث والتي استفدناها ببركة بيانات الأئمة عليه السلام وكلماتهم، سوف نعتمد على نفس المصادر وسنري أية استفادات صحيحة نحصلها.
قبل أن ندخل في صلب البحث ينبغي أن نذكر بنقطة موجزة: فبسبب مرحلة القمع الشديد التي كان يعيشها الإمام السجاد عليه السلام، لم يستطع أن يبيّن لنا تلك المفاهيم بصورة واضحة ولذلك كان يستفيد من أسلوب الموعظة والدعاء (خاصة أدعية الصحيفة السجادية التي سوف نتعرض لها فيما بعد البيانات والروايات التي نقلت عن الإمام عليه السلام والتي كانت تطغى عليها حالة الموعظة) حيث كان الإمام ضمن بيان الموعظة والنصيحة يبّين ما أشرنا إليه سابقاً، وبهذا اتّبع الإمام السجاد عليه السلام منهجاً حكيماً وشديد الحذاقة. وبذلك الأسلوب الذي ظاهره موعظة الناس ونصحهم أدخل الإمام عليه السلام إلى أذهانهم ما يريده، وهذا من أفضل أشكال التعاطي الإيديولوجي والفكري الصحيح.

ما سنقوم بدراسته هنا هو كلمات الإمام السجاد عليه السلام الواردة في كتاب "تحف العقول" حيث نشاهد عدة أنواع من الأسلوب المذكور والتي تشير إلى طبيعة الجهات المخاطبة.

البيانات الموجهة إلى عامة الناس:

أحد تلك الأنواع، البيانات الموجّهة لعامة الناس والتي يظهر فيها أن المستمع ليس من الجماعة المقربة والخاصة للإمام أو من الكوادر التابعين له. وفي هذه الخطابات يستند الإمام عليه السلام دائماً إلى الايات القرانية، لماذا؟ لأن عامة الناس لا ينظرون إلى الإمام السجاد عليه السلام كإمام بل يطلبون الدليل في كلماته، ولهذا كان الإمام يستدّل إما بالايات أو بالإستعارة من الايات، حيث استخدم هذا الأسلوب في أكثر من 50 مورداً ذكر في تلك الروايات.

ولكن في الخطاب الموجّه إلى المؤمنين نجد الأمر مختلفاً لأن هؤلاء المؤمنين يعرفون الإمام السجاد عليه السلام وقوله مقبول عندهم ولهذا لم يكن يستند في كلامه إلى الايات القرانية. ولو أحصينا كل كلامه الموجه إليهم لوجدنا أن استخدام الايات القرانية فيه قليل جداً.

في رواية مفصلة في كتاب "تحف العقول" تحت عنوان: "موعظة لسائر أصحابه وشيعته وتذكيره إياهم كل يوم جمعة"، نجد هنا أن دائرة المستمعين واسعة وهذا ما نستنتجه من القرائن المفصلة الواردة فيها.

ففي هذه الرواية لم يستخدم الإمام كلمة "أيها المؤمنون" أو "أيها الأخوة" حتى نعلم أن خطابه موجّه إلى جماعة خاصة ولكنه قال "أيها الناس" وهذا يشير إلى عمومية الخطاب.

ثانياً: لا يوجد في هذه الرواية تصريح بشي‏ء معارض للجهاز، بل انصرف كل الخطاب لبيان العقائد، وما ينبغي أن يعرفه الإنسان وذلك بلسان الموعظة.

فالخطاب يبدأ هكذا: "أيها الناس، اتقوا الله واعلموا أنكم إليه راجعون...".
ثم يتطرق الإمام عليه السلام إلى العقائد الإسلامية ويوجّه الناس إلى ضرورة فهم الإسلام الصحيح، وهذا يدل على أنهم لا يعرفون الإسلام الصحيح، يريد بذلك إيقاظهم من غفلة الجهل إلى معرفة الإسلام وتعاليمه.

انظروا مثلاً كيف يستفيد الإمام السجاد عليه السلام من أسلوبه الجذاب، حيث يقول: "ألا وإن أول ما يسألانك عن ربك الذي كنت تعبده"، وبهذا يريد أن يوقظ فيهم الدافع لمعرفة الله وفهم التوحيد، "وعن نبيك الذي أرسل إليك"، ثم الدافع لفهم النبوة، "وعن دينك الذي كنت تدين به، وعن كتابك الذي كنت تتلوه.." وأثناء عرضه لهذه العقائد الأصيلة وهذه المطالب الأساسية للإسلام كالتوحيد والنبوة والقران والدين، يبيّن هذه النقطة الأساسية بقوله عليه السلام: "وعن إمامك الذي كنت تتولاه"، فهو هنا يطرح موضوع الإمامة، وقضية الإمامة عند الأئمة تعني قضية الحكومة أيضاً، إذ لا يوجد فرق بين الولاية والإمامة على لسان الأئمة عليه السلام. وإن كان للولي والإمام معانٍ مختلفة عند البعض ولكن هاتين القضيتين، الولاية والإمامة، على لسان الأئمة أمر واحد والمراد منهما واحد. وكلمة "الإمام" المقصودة هنا تعني ذلك الإنسان المتكفل بإرشاد الناس وهدايتهم من الناحية الدينية، وأيضاً المتكفّل بإدارة أمور حياتهم من الناحية الدنيوية، أي خليفة النبي‏ صلى الله عليه وآله وسلم.

لفظة الإمام تعني المتقدم والقائد. فالإمام الصادق عليه السلام عندما كان يخاطب الناس في منى أو عرفات بقوله: "أيها الناس إن رسول الله هو الإمام"، كان يشير إلى أن الإمام هو ذلك الإنسان الذي يتولى أمور الناس الدنيوية.

في المجتمع الإسلامي أيام حكم عبد الملك بن مروان وفي عصر الإمام السجاد عليه السلام كان هذا المعنى يفهم بشكل خاطئ. لأن إمامة المجتمع، وهي إدارة شؤون حياة الناس، قد سلبت من أهلها وأعطيت إلى من لا أهلية لهم بها حيث كانوا يلقبون أنفسهم بالأئمة ويعرفهم الناس بذلك. فالناس كانوا يُطلقون لقب الإمام على عبد الملك ومن قبله أبيه وقبلهما يزيد وغيره، وقد قبلوهم على أساس أنهم قادة المجتمع وحكام الناس.

وهكذا عندما كان الإمام السجاد عليه السلام يقول: "إنك ستسأل عن إمامك في القبر"، كان يشير إلى أنك هل انتخبت الإمام المناسب والصحيح؟ وهل أن ذلك الشخص الذي كان يحكمك، ويقود المجتمع الذي تعيش فيه هو حقاً إمام؟ وهل هو ممن رضي الله عنه؟ لقد كان الإمام بهذا الكلام يوقظ الناس ليجعل هذه القضية في نفوسهم حساسة.

بهذه الطريقة كان الإمام يحيى قضية الإمامة التي لم يكن الجهاز الأموي الحاكم يرضى أبداً بالتطرق إليها في المواعظ وفي الخطابات العامة. (كانت من إحدى الوسائل الهادئة التي استخدمها الإمام في هذا المجال، وسوف نشير لاحقاً إلى أساليب أكثر جدية).

بناء على هذا ففي البيان العام الموجه إلى عامة الناس نجد أن الإمام وبلغة الموعظة يحيى المعارف الإسلامية، وخاصة تلك المعارف الحساسة في ذهن الناس ويسعى لأجل أن يتعرف الناس عليها ويتذكروها. ويمكن الإلتفات في هذا النوع من الخطاب إلى نقطتين اثنتين:

الأولى: إن هذا الأسلوب البياني للإمام عليه السلام لم يكن تعليمياً، بل هو من نوع التذكير، أي أن الإمام لم يكن يجلس ليبيّن للناس دقائق التوحيد، أو يفسر لهم مسألة النبوة. وإنما يذكرهم بها. لماذا؟ لأن المجتمع الذي كان يعيش فيه الإمام لم تكن تفصله عن مرحلة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مسافة زمنية كبيرة حتى ينحرف كلياً عن العقائد الإسلامية. بل كان هناك الكثير من الأشخاص الذين عايشوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومرت عليهم مرحلة الخلفاء الراشدين وقد عاصروا أئمتنا العظام من أمير المؤمنين عليه السلام إلى الإمام الحسن عليه السلام إلى الإمام الحسين عليه السلام. ومن الناحية الإجتماعية لم يكن الوضع قد وصل إلى مرحلة يعاني فيها المجتمع الإسلامي من الإنحراف العقائدي والأصولي بالنسبة لمسألة التوحيد والنبوة والمعاد والقران.

نعم، كانت هذه المسائل تدريجياً تخرج من ذاكرتهم، وكانت الحياة المادية تحيط بهم إلى درجة تنسيهم الفكر الإسلامي والعقيدة الإلهية.
كانت الحياة الدنيوية والمادية تسري في المجتمع بحيث لا تبقي في أذهان الناس أي توجه للمسابقة في مضمار المعنويات والخيرات. وإذا وجد هذا الأمر فإنه لم يكن ليتعدى القشور والسطوح.

أما بالنسبة للمفهوم الذي كان الناس في زمن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والعصر المتصل به يحملونه عن التوحيد والحساسية المتميزة تجاهه فإن الناس في عصر الإمام كانوا يفتقدونه، وهذا ما كان يستدعي التذكير حتى يرجع الأمر إلى سابق عهده، لا أن هناك أشياء محرفة ينبغي أن تصحح.

وهذا بخلاف المراحل اللاحقة، كمرحلة الإمام الصادق عليه السلام لأن المتكلمين والمتفلسفين والمفكرين، وتحت عناوين متعددة كانوا يجلسون في المساجد الكبرى، مثل مسجد المدينة وحتى المسجد الحرام ومسجد الشام ويدرّسون العقائد المنحرفة والباطلة. لقد برز حينها أناس مثل "ابن أبي العوجاء" يدرسون عقائد الزنادقة والإلحاد. لهذا، إذا تأملتم أحاديث وكلمات الإمام الصادق عليه السلام تجدون بيان التوحيد والنبوة وأمثالها بصورة استدلالية.

فالحاجة إلى الإستدلال ضرورية لمواجهة استدلال الخصم، وهذا ما لا نجده في بيانات الإمام السجاد عليه السلام التي كانت تعتمد على الحالة الشعورية والوجدانية التي تذكر بالقضايا الأساسية.
وباختصار لم يكن عصر الإمام السجاد عليه السلام خروج عن الفكر الإسلامي حتى عند الحكام إلا في بعض الموارد التي يظهر فيها مثل هذا الأمر. وذلك عندما ألقى يزيد اللعين تلك الأبيات الشعرية في حالة السكر عندما أحضر أسرى أهل البيت عليه السلام قال:

لعبت هاشم بالملك فلا خبر جاء ولا وحيٌ نزل‏ ولكننا نستطيع أن نقول، أن هذا الكلام كان تحت تأثير السكر. فحتى أمثال عبد الملك أو الحجاج لم يكونوا يجرءون على إعلان مخالفتهم لفكرة التوحيد أو النبوة. لقد كان عبد الملك بن مروان يقرأ القران إلى درجة أنه عرف كأحد قرّاء القران. ثم عندما وصل إليه خبر تنصيبه خليفة قبل القران وقال: "هذا فراق بيني وبينك" إن هذا ما حدث فعلاً.

والحجاج بن يوسف الذي سمعتم عن ظلمه (وباليقين إن الذي سمعتموه هو أقل بكثير مما فعله) كان عندما يخطب في الناس يأمرهم بالتقوى. وهكذا نفهم سبب اعتماد الإمام السجاد عليه السلام على التذكير بالأفكار الإسلامية لإخراج الناس من مستنقع الدنيا والأهواء المادية إلى ساحة معرفة الله والدين والقران.

الثانية: وهي ما أشرنا إليه سابقاً أن الإمام عليه السلام كان يأتي على ذكر مسألة الإمامة من خلال بيانه العام الذي اتخذ أسلوب الموعظة والإرشاد. كما كان يحدث في النظام الشاهنشاهي البائد عندما كان البعض يتحدث إليكم ويذكّركم قائلاً: "أيها الناس فكروا بالله، وبالتوحيد والنبوة وبقضية الحكومة.."، فانظروا كيف يمكن أن نفهم مسألة الإمامة وكيف كانت هذه الكلمة في النظام السابق كلمة خطرة. فحينها لم يكن الإتيان على ذكر الحكومة بالأمر السهل.

أما إذا جاء ذلك بلغة الوعظ وعلى لسان رجل زاهد وعابد فإنه يمكن أن يقبل، وبتعبير اخر لن يثير الحساسيات.
هذا نوع من بيانات الإمام السجاد عليه السلام أما النوع الثاني فهو ذلك الخطاب الموجه إلى مجموعة خاصة لا تعرف هويتها. ولكن من الواضح أنه كان موجهاً إلى مجموعة خاصة لا تعرف هويتها. ولكن من الواضح أنه كان موجهاً إلى مجموعة من الذين يخالفون النظام الحاكم. فمن يمكن أن يكون هؤلاء؟

البيانات الموجهة إلى المعارضين للسلطة:

هذه الخطابات وإن لم يعلم منها بالتحديد من هي تلك الفئة المخاطبة، ولكن من الواضح أنها لفئة مخالفة للنظام الحاكم وأفرادها هم في الواقع من أتباع الإمام عليه السلام ومن المعتقدين بحكومة أهل البيت عليه السلام.

ولحسن الحظ أننا نجد في كتاب تحف العقول نموذجاً لهذا النوع من البيانات (ولا نجد في غيره من الكتب موارد أخرى من هذا النوع بالرغم من أن هناك الكثير في حياة الإمام السجاد عليه السلام، ولكن على أثر الحوادث المختلفة التي جرت في ذلك العصر من القمع والتنكيل والإضطهاد وقتل الأصحاب زالت تلك الاثار وبقي القليل منها).

يبدأ الخطاب التابع لهذا النوع الثاني هكذا: "كفانا الله وإياكم كيد الظالمين وبغي الحاسدين وبطش الجبارين".
ويعلم من هذا البيان أن الإمام عليه السلام والجمع الحاضر مهددون من قبل السلطات الحاكمة. وأن المسألة ترتبط بمجموعة خاصة: المؤمنون بأهل البيت عليه السلام، ولذلك جاء الخطاب بصيغة "يا أيها المؤمنون" خلافاً للنوع الأول حيث يستعمل "يا أيها الناس" و "يا ابن ادم". وذلك لأن الخطاب موجه في الحقيقة إلى المؤمنين بأهل البيت وأفكار أهل البيت عليه السلام.

والدليل الاخر الواضح جداً عندما يقول عليه السلام: "لا يفتننكم الطواغيت وأتباعهم من أهل الرغبة في الدنيا، المائلون إليها المفتونون بها، المقبلون عليها".
فالمقصد الأصلي من الكلام هو حفظ هؤلاء المؤمنين وبناء الكادر اللازم للمستقبل ومن الواضح أنه على أثر الصراع الشديد في الخفاء ما بين أتباع الأئمة عليه السلام وأتباع الطواغيت، فإن أتباع الأئمة عانوا من الحرمان الكبير، كما حدث في مرحلة جهادنا أولئك الذين كانوا يواجهون الحكم قبل انتصار الثورة بالتأكيد لم يكونوا في حالة الراحة التي كان يعيشها غيرهم، وإنما كان السجن والنفي. والخوف والتعذيب والهروب عنوان حياتهم. فإذا كان أحدهم تاجراً أو بائعاً مثلاً يفرضون عليه ضرائب أكثر من الحد المعمول به، وإذا كان طالباً جامعياً يبقى دائماً مراقباً وقد يخرجونه من الجامعة. وإذا كان معمّماً يلاحق ويعتقل أو ينفى، أو إذا كان إدارياً يعزل أو يجمّد راتبه. فمهما كان المجاهد ومن أية طبقة كان، ففي زمن الشاه كان يعاني من حرمان مادي ونقص في الأموال. بل إنهم منعوا البعض من الذهاب إلى الحج وذلك بالتضييق عليه أو منعه من السفر.

والخطر الأكبر الذي يهدد المجاهدين هو أن يتوجهوا إلى الرفاهية، هذه الرفاهية التي لن تجرهم إلاً إلى ترك الجهاد.
لقد كان الإمام عليه السلام يؤكد كثيراً على هذه النقطة ويحذر الناس من الرفاهيات في هذه الدنيا المتلألئة الكاذبة الخداعة التي لن تؤدي إلا إلى التقرب من الطواغيت، لهذا فإنكم تجدون في هذا البيان وفي العديد من بيانات الإمام السجاد عليه السلام وفي الروايات القصيرة التي نقلت عنه تأكيداً على هذا الأمر.

ماذا يعني التحذير من الدنيا؟ يعني حفظ الناس من الإنجذاب نحو أصحاب الرفاه والإيمان بهم وتمييزهم بحيث تخف حدة مواجهة الناس لهم. وبالطبع فإن هذا النوع من الخطابات موجه للمؤمنين، أما في الخطاب المتوجه إلى عامة الناس فقليلاً ما نجد مثل هذا النوع. ففي خطاب عامة الناس كما ذكرنا سابقاً كثيراً ما يظهر: أيها الناس التفتوا إلى الله، إلى القبر والقيامة، إلى أنفسكم والغد. فما هو هدف الإمام عليه السلام من هذا النوع الثاني من الخطاب؟ المقصود هو بناء الكادر.

فهو عليه السلام يريد أن يصنع من المؤمنين كوادر ملائمة للمرحلة ولهذا فإنه يحذرهم من الإنجذاب نحو أقطاب القدرة والرفاهية الكاذبة ويكرر ذكر النظام الحاكم للنوع الأول من البيانات، كما يقول عليه السلام مثلاً: "وأن الأمور الواردة عليكم في كل يوم وليلة من مظلمات الفتن وحوادث البدع وسنن الجور وبوائق الزمان وهيبة السلطان ووسوسة الشيطان".

وهنا نجد أن الإمام عليه السلام مباشرة بعد ذكر هيبة السلطان وهيبته يذكر وسوسة الشيطان، يريد بذلك أن يلفت النظر إلى حاكم ذلك الزمان ويضعه إلى جانب الشيطان. وفي تتمة الكلام جملة ملفتة جداً (ولأنها مهمة جداً أنقلها عن مطلب ذكرته سابقاً): "لتثبط القلوب عن نيتها وتذهلها عن موجود الهدى ومعرفة أهل الحق"، (تلك الهداية الموجودة الان في المجتمع).

فالإمام السجاد عليه السلام يعظهم بنفس الأسلوب السابق، فهو يحذرهم من مجالسة أهل المعاصي؟ أولئك الذين جذبوا لنظام عبد الملك الظالم. الان حاولوا أن تتصوروا شخصية الإمام السجاد عليه السلام، وأن تكوّنوا فكرة عنه. هل ما زال ذلك الإمام المظلوم الصامت المريض الذي لا شأن له بالحياة؟ كلا، فالإمام هو الذي كان يدعو مجموعة من المؤمنين والأصحاب ويحذرهم، بهذه الصورة التي ذكرناها من التقرب إلى الظلمة ونسيان المجاهدة ويمنعهم من الإنحراف عن هذا الطريق، كل ذلك لأجل أن يكونوا مؤثرين في إيجاد الحكومة الإسلامية.

من جملة الأشياء التي أراها جلية وشديدة الأهمية في هذا القسم من بيانات الإمام السجاد عليه السلام تلك الكلمات التي يّذكر فيها بتجارب أهل البيت عليه السلام الماضية. ففي هذا القسم يشير الإمام عليه السلام إلى تلك الأيام التي مرّت على الشيعة من قبل الحكام الجائرين مثل معاوية ويزيد ومروان. ووقائع مثل الحرة وعاشوراء وشهادة حجر بن عدي ورشيد الهجري وعشرات الحوادث المهمة ويريد الإمام عليه السلام أن يحث أولئك المخاطبين من خلال ذكر تلك الحوادث الشديدة، على التحرك والثورة، والتفتوا الان إلى هذه الجملة: "فقد لعمري استدبرتم من الأمور الماضية في الأيام الخالية من الفتن المتراكمة والإنهماك فيها ما تستدلون به على تجنب الغواة و...".

أي إنكم تستحضرون تلك التجارب وتعلمون ماذا سيفعل بكم أهل البغي والفساد. وهم حكام الجور عندما يتسلطون عليكم؟ ولذلك يجب عليكم أن تتجنبوهم وتواجهوهم.
وفي هذا الخطاب يطرح الإمام مسألة الإمامة بصورة صريحة. أي قضية الخلافة والولاية على المسلمين والحكومة على الناس وإدارة النظام الإسلامي ولم يكن بمقدور الإمام في ذلك الوقت أن يوجه هذا الخطاب لعامة الناس. ثم يقول عليه السلام: "فقدموا أمر الله وطاعته وطاعة من أوجب الله طاعته".

وهنا يعيّن الإمام عليه السلام فلسفة الإمامة عند الشيعة والإنسان الذي يجب أن يطاع بعد الله. ولو فكّر الناس في ذلك الوقت بهذه المسألة لعلموا بوضوح أنه لا يجب طاعة عبد الملك. لأنه من غير الجائز أن يوجب الله طاعة عبد الملك. ذلك الحاكم الجائر بكل فساده وبغيه. وبعد أن يقدم الإمام عليه السلام هذه المسألة يتعرض لرد شبهة مقدّرة فيقول: "ولا تقدموا الأمور الواردة عليكم من طاعة الطواغيت وفتنة زهرة الدنيا بين يدي أمر الله وطاعته وطاعة أولي الأمر منكم".

ففي هذا الخطاب والخطاب السابق يركّز الإمام عليه السلام على مسألتين من المشاكل الثلاث التي أشرنا إليها سابقاً:
الأولى: تدوين الفكر الإسلامي وإحياؤه في أذهان الناس والحث على تعلمه.
والأخرى: مسألة الولاية السياسية أي الحكومة والقيادة للنظام الإسلامي.

وعندما يعرّف الإمام هاتين المسألتين فإنه يقوم في الواقع بتعريف النظام العلوي والنظام الإسلامي الإلهي.

ضرورة التشكيلات:

نوع اخر من بيانات الإمام السجاد عليه السلام وهو أهم من البيانين الأولين. ومن خلاله يدعو الإمام عليه السلام الناس بصراحة إلى ضرورة إيجاد تشكيلات خاصة، وبالطبع فإن هذه الدعوة موجهة إلى أولئك الذين يتبعون أهل البيت عليه السلام وإلا لو كانت إلى غيرهم من عامة الناس لأفشيت وأدّت إلى إيذاء الإمام عليه السلام وتعرضه للضغوط الصعبة، وبحمد الله فإننا نجد نموذجاً لهذا النوع من البيانات في "تحف العقول".

يبدأ الإمام عليه السلام بهذه العبارة: "إن علامة الزاهدين في الدنيا الراغبين في الاخرة، تركهم كل خليط وخليل ورفضهم كل صاحب لا يريد ما يريدون". وهذا تصريح بالدعوة إلى إيجاد تشكيلات شيعية.

فهو عليه السلام يعلمهم بأن عليهم الإبتعاد عن أولئك الذين يخالفونهم في الدافع ولا يتبعون الحكومة العلوية وحكومة الحق.
فليكن هناك مراودة ومعاشرة، ولكن لتكن مثل ما حدث في إيران عندما كان الناس يعلمون أن البقال الفلاني عميل للسافاك أو أن ذلك الشخص يعمل مخبراً للنظام.

وهناك نوع اخر من بيانات الإمام لا يوجد فيه تلك المطالب الكلية التي أشرنا إليها، مثل رسالة الحقوق.
ففي هذه الرسالة التي كتبها الإمام لأحد الأشخاص يذكر حقوق الأفراد والإخوان على بعضهم البعض، ويذكر حق الله عليك وحق أعضائك وجوارحك وحق العين واللسان و.. كما يذكر حق حاكم المجتمع الإسلامي وحقك عليه.

وبدون أن يذكر الإمام عليه السلام اسم الحكومة والمواجهة والنظام يبين خصائص الحكومة الإسلامية التي يمكن أن تتحقق في المستقبل.
ونوع اخر نجده في الصحيفة السجادية وهذا الأمر يتطلب مفصلاً ربما هو عمل أولئك الذين يعملون في هذا المجال.

فالصحيفة السجادية تتضمن مجموعة من الأدعية من كافة المجالات التي ينبغي أن يلتفت إليها الإنسان الحي والواعي. وأكثرها في الروابط والعلاقات القلبية والمعنوية للإنسان. ففي هذه الأدعية والمناجاة يحي الإمام عليه السلام الدوافع نحو حياة إسلامية ويوقظ الناس إليها.

إحدى النتائج التي يمكن أن تحصل من الأدعية. وقد ذكرناها مراراً. هي إحياء الشعور السليم والصحيح في القلوب. فعندما تقولون: (اللهم اجعل عواقب أمورنا خيراً) فإن هذا الدعاء يحي في قلوبكم ذكر العاقبة ويدفعكم للتفكر في المصير. فقد يغفل الإنسان أحياناً عن عاقبته، يعيش ولا يلتفت إلى مصيره. فإذا تلا هذا الدعاء يستيقظ فجأة إلى ضرورة تحسين عاقبته. أما كيف يتم ذلك فهذا بحث اخر. فقط أردت أن أضرب مثلاً حول الدور الصادق للدعاء. وهذا الكتاب الملي‏ء بالدوافع الشريفة للأدعية كاف لإيقاظ المجتمع وتوجيهه نحو الصلاح.

وإذا تجاوزنا ذلك، وجدنا روايات قصيرة وعديدة نقلت عن الإمام السجاد عليه السلام. منها ما ذكرته سابقاً: "أولا حر يدع هذه اللماظة لأهلها".
انظروا كم هو مهم هذا الحديث. فالزخارف الدنيوية والزبارج كلها بقية لعاب الكلب لا يتركها إلا الحر. وكل أولئك الذين يدورون في فلك عبد الملك إنما يريدون تلك اللماظة. وأنتم أيها المؤمنون لا تنجذبون إليها.

ونجد الكثير مثل هذه البيانات الثورية والملفتة للإمام عليه السلام.
وسوف نصل إليها فيما بعد إن شاء الله. لقد كان الإمام السجاد عليه السلام شاعراً. وشعره يحتوي على معان مهمة سوف نذكرها لاحقاً إن شاء الله.


* بحوث في الحياة السياسية لأهل البيت عليهم السلام, سلسلة المعارف الإسلامية , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

2013-04-01