يتم التحميل...

التربية على أساس الفطرة

التربية

يوجد في باطن كل فرد ميول كامنة لكل منها دور مستقل في تحقيق سعادة الانسان. إن تنمية كل واحد من الميول الطبيعية بالصورة العادلة والصحيحة بمنزلة نمو فرع من فروع شجرة السعادة، وإن خنق كل واحدة من الغرائز وكبتها معناه القيام بخطوة في سبيل الشقاء والانحراف ...

عدد الزوار: 11

قال الله تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا(الشمس:7ـ8).

يوجد في باطن كل فرد ميول كامنة لكل منها دور مستقل في تحقيق سعادة الانسان. إن تنمية كل واحد من الميول الطبيعية بالصورة العادلة والصحيحة بمنزلة نمو فرع من فروع شجرة السعادة، وإن خنق كل واحدة من الغرائز وكبتها معناه القيام بخطوة في سبيل الشقاء والانحراف فعلى القائمين بالتربية ترتيب المناهج التربوية منذ البداية على أساس الغرائز الطبيعية والادراكات الفطرية للأطفال، فإن التربية التي تعتمد على أساس الفطرة تكون ثابتة ورصينة.

الوجدان

الوجدان عبارة عن القوة المدركة في النفس الانسانية، والوجدانيات هي الحقائق التي يدركها الوجدان. ولا بد من الاستفادة من القوتين الفطريتين (الوجدانين الطبيعيين) في عمليات التربية الايمانية والاخلاقية وهما: فطرة المعرفة. والأخرى: فطرة تمييز الخير من الشر، وتسمى الأولى بالوجدان التوحيدي، والثانية بالوجدان الأخلاقي.

الوجدان التوحيدي: هو إدراك جميع الشعوب والأمم من أي طبقة كانوا بفطرتهم الطبيعية ووجدانهم الباطني أن هناك قوة لا محدودة وقدرة عظيمة غير خاضعة للتغيرات تسيطر على هذا الكون. تلك الحقيقة المجهولة التي يدركها كل انسان هي الله تعالى، وتلك القوة المدركة الموجودة في باطن كل فرد، والتي تدلنا على هذه الحقيقة هي الوجدان التوحيدي.

أما الوجدان الأخلاقي: فهو عبارة عن القوة المدركة المودعة في باطن كل فرد، والتي تميز الخير من الشر. وبعبارة أخرى: يوجد في باطن جميع الأفراد من مختلف الشعوب والأقوام (الآسيويين، والأوربيين، الافريقيين والامريكان، البيض، والسود، الرجال والنساء، المؤمنين والملحدين) قوة مدركة مستترة يستطيعون بها إدراك كثيرمن الأمور الصالحة والفاسدة من دون حاجة إلى معلم أو مرب، أو كتاب أو مدرسة... هذه القوة المدركة تسمى عند علماء النفس بالوجدان الأخلاقي.

محكمة الوجدان
يمكن تمثيل الوجدان الأخلاقي بقاض حاذق وقوي يحاكم صاحبه عند ارتكابه جريمة ويحكمه، ويجازيه على أعماله السيئة بالضربات المؤلمة التي يوجهها على روحه وأعصابه.

لا توجد في العالم محكمة تضاهي محكمة الوجدان في قوتها وحريتها فالمجرم مهما كان قوياً فانه ضعيف وعاجز أمام قاضي الوجدان، ولا يستطيع أن يهرب من عقوبات محكمة الوجدان بأي وسيلة أصلاً.

للجنون أو الأمراض النفسية والعصبية عوامل مختلفة، وإن مما لا شك فيه أن من تلك العوامل الضربات الداخلية والضغط الشديد للوجدان. إن الوجدان الأخلاقي يسلب المجرم إستقراره وراحته، ويقض عليه مضجعه ويجعل الحياة أمام عينيه سجناً لا يطاق، فالاحساس بالخيانة والاجرام يلتهب في باطن المجرم كشعلة متوهجة تحرق روحه وجسمه.

وقد يكون أثر العقوبات الوجدانية في إيجاد الاختلالات النفسية شديداً ومعقداً إلى درجة أنه لا يستطيع أي طبيب نفساني مهما كان حاذقاً أن يعالجه ويعيد للمريض حالته الاعتيادية السابقة. إن المحكومين أمام قاضي الوجدان والمصابين ببعض الأمراض النفسية، أو الجنون من جراء الضغط الداخلي، يكونون في حالة خطرة جداً فقد يقومون ببعض الجرائم الكبيرة ويقودون المجتمع إلى مجموعة هائلة من المآسي والمشاكل.

"من الاختلافات الجوهرية بين الانسان والحيوان المفترس أن الحيوان المفترس يستولي على فريسته بهدوء ويأكلها ثم يرتاح لهذا العمل ويتلذذ به، في حين أن الانسان إذا قتل أحد أبناء جنسه يقع في خوف وألم شديدين. وحيث لا يستطيع أن يطرد هذا الخوف والألم من نفسه يتشبث لاثبات حقانيته بالتهم الكاذبة فيلصقها بضحيته ومن دون أن يحس أنه قد صار بصورة متهم يدافع عن نفسه باستمرار، ويتحامل على الأفراد الآخرين الذين يحتمل أن يلوموه على أفعاله، وبهذه الصورة فان الخطيئة الأولى لا يقف أثرها على إيجاد الاختلالات العظيمة في مرتكبها، بل انها تجر وراءها سلسلة من الجرائم الجديدة والفظيعة التي ترتبط بتألم الوجدان الاخلاقي والإحساس بالحقارة".

"ولأجل الوجدان الأخلاقي هذا، الذي لا مفر من لومه وعذابه، يكون الانسان أكثر توحشاً من الحيوان المفترس. هذه المخاوف ليست من آثار غريزة الهجوم بل انها دليل صادق على قوة الوجدان الأخلاقي عند الانسان، تلك القوة التي لا تقبل الانكسار والغلبة"1.

قد يمكن أن تطوى أسرار جريمة ما، ولا تفتح إضبارة للمجرم في المحاكم القضائية، أو يغفل المجرم القاضي ويمسخ القضية، أو يتهم شخصاً بريئاً في مكانه ويحفظ نفسه من العقاب... ولكن لا يمكن إغفال قاضي الوجدان ولا يستطيع المجرم بأي حيلة أن يبرئ نفسه في محكمة الوجدان على خلاف الواقع.

إن الوجدان الأخلاقي يحاكم المجرم بأشد ما لديه من قوة ودقة ويتغلب عليه، فهو في الغرفة التي يختلي فيها، والفراش الذي يأوي إليه، وفي المكان الذي لا يراقبه أحد يتلوى كالسليم، ويجد عقابه على أعماله السيئة من هذا الطريق.

الدين والفطرة

يكون الوجدان التوحيدي والوجدان الأخلاقي من وجهة نظر الدين والعلم دعامتين أساسيتين للتربية الانسانية السليمة، فإن دعوات الأنبياء اعتمدت على هذين الأساسين القويين بمعونة العقل. فالدين يستند إلى الفطرة في باطن الانسان. وإن العرض الديني الذي كان يصدر من قبل الأنبياء كان في مقابل الطلب الطبيعي عند الناس. ولهذا السبب فإن الدين استقام وأرسى قواعده على الرغم من جميع الموانع والمشاكل التي لاقاها في طريقه.

تمر اليوم قرون طويلة على ظهور رسل السماء، ولا تزال شعلة الإيمان متوهجة في قلوب الناس، لأن المصدر الأصيل لهذه الشعلة المتوقدة هو: فطرة الانسان، فما دام على وجه الأرض إنسان، وما دامت هناك فطرة، فإن هذا المشعل الوهاج لا ينطفىء بل هو مستمر في إشعاعه.

وهنا يجب أن نبين أن الوجدان التوحيدي والأخلاقي... هذه الحقيقة التي نجدها في كمين كل انسان، ليس ظاهرة متصنعة، ولم يوجد على أثر الوراثة الاجتماعية طيلة قرون، وبفضل التعاليم الدينية والتربوية بل إنه أمر غريزي ونداء فطري منبعث من باطن الانسان، وجد مع وجود الانسان، وسيبقى إلى الأبد معه.

قد يمكن للبعض أن يكافحوا بعض ميولهم الفطرية في ظروف خاصة ويكبتوا تلك الغرائز في نفوسهم، ولكن كفاحهم ذلك وكبتهم هذا لا يمكن أن يزيل الحقيقة الفطرية، ويمحو الغريزة الانسانية التي جبل عليها جميع البشر.

فالغريزة الجنسية مثلاً أمر فطري غير قابل للانكار، ولكن وجد على مر الأجيال ملايين الأفراد من تاركي الدنيا في أوروبا والمرتاضين في القارة الهندية، كافحوا هذه الغريزة وخنقوها في نفوسهم بالضغط والاكراه إلى درجة أن بعضهم أخذ لا يحس في نفسه أي ميل جنسي أصلاً، أفيستطيع هؤلاء أن يسحقوا الحقيقة الفطرية للغريزة الجنسية بهذا العمل؟! هل يحق لهؤلاء أن ينكروا وجود الميل الجنسي في البشر؟!.

وكذلك أمر الذين يتجاهلون الفطرة الايمانية والأخلاقية في أنفسهن ويكافحون غريزة التدين حياة طويلة ويعيشون ملحدين، فانهم لا يستطيعون أن ينكروا وجود فطرة الايمان والأخلاق في الانسان، فلا صلة بين انحرافهم عن صراط الفطرة المستقيم وبين حقيقة الوجدان الطبيعي والبناء الفطري القائم على الايمان والأخلاق.

إن الاسلام يعتبر الأسس الرصينة للايمان والأخلاق من الثروات الفطرية الانسانية، ويرى أن التوصل إلى وجود الله، ومعرفة الخير والشر إنما هو جزء من تكوين الانسان.

إحياء الفطرة
إن أهم واجبات الأنبياء هو إيقاظ الجوانب الفطرية عند الانسان واستغلال الثروات الالهامية فيه. يقول الامام علي عليه السلام في هذا الصدد: "فبعث الله فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، ويذكروهم منسي نعمته ويجتمعوا عليهم بالتبليغ، ويثيروا لهم دفائن العقول"2.

الفرق بين التذكير والتعليم
ربما تكون قد حفظت قصيدة قبل عشرين سنة، ونسيتها على أثر الإهمال والغفلة، وليست لديك أية التفاتة إلى شيء منها أصلاً، ويصادف أن يقرأ شخص تلك القصيدة أمامك فبمجرد أن يبدأ بقراءة البيت الأول تحس بأنس وقرب إلى تلك القصيدة فتعمل حافظتك وتجتهد لتذكر الأبيات التي نسيتها... وفي الواقع ان الذي قرأ لك الأشعار نبهك إلى حقيقة موجودة في ضميرك لكنها منسية. هذا الشخص يسمى بـ (المذكر)، ويسمى عمله (تذكيراً). أما إذا نظم شخص قصيدة حديثة وقرأها لك وعلمها إياك بيتاً بيتاً، فيقال له المعلم ويسمى عمله تعليماً.

من هنا ندرك السر في تسمية النبي صلّى الله عليه وآله في القرآن الكريم باسم المذكر أحياناً، وباسم المعلم أحياناً أخرى. إذ أنه صلّى الله عليه وآله في عمله الديني والتهذيبي يقوم بكلا الدورين، فعندما يوقظ الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله الجوانب الفطرية في النفس الانسانية، وينبه الناس إلى ضمائرهم الباطنة، يعبر عنه القرآن الكريم بالمذكر: ﴿"فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ"(الغاشية:21). وعندما يأتي بتعاليم جديدة ونظم غير موجودة في الفطرة الانسانية يسمى عمله تعليماً: ﴿وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ(البقرة:151).

الأساس الرصين للفطرة
إن أولى الأمور الفطرية عند الانسان في نظر الاسلام هو معرفة الله فلقد جاء في القرآن الكريم والنصوص المتواترة عن المعصومين عليهم السلام اعتبار معرفة الله أوضح البديهيات في فطرة البشر.

وإن وجود المذاهب المختلفة والعقائد المتضاربة في جميع العصور بين جميع الشعوب والأقوام دليل واضح على وجود غريزة التدين في فطرة الانسان والكل يبحثون عن ضالتهم المنشودة:

﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ(الروم:30).

هذا هو الأساس الرصين للفطرة، ويظهر في الميل الغريزي للتدين ومعرفة الله جل وعلا، وعلى سبيل الاستشهاد نورد النصوص التالية:

1- عن زرارة قال: "سألت أبا جعفر عليه السلام: ما الحنيفية؟ قال: هي الفطرة التي فطر الناس عليها... فطرهم على معرفته"3.

2- عن الامام الصادق عليه السلام في قوله تعالى: "فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا"قال: " فطرهم على التوحيد"4.

3- عن الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله: "كل مولود يولد على الفطرة حتى يكون أبواه يهودانه وينصرانه"5.

يستفاد من هذا الحديث أنه يوجد الأساس الأول لتقبل الدين في فطرة جميع الأطفال، ويستغل الأبوان ـ وهما القائمان على تربية الطفل هذه الثروة الفطرية ويربيان الطفل على الدين الذي يريدانه. فإن لم تكن غريزة التدين موجودة في فطرة الانسان لم يكن معنى لتأثير توجيه الوالدين في اعتناق الطفل لدين معين طيلة حياته.

4- عن الامام الصادق عليه السلام: "ستة أشياء ليس للعباد فيها صنع: المعرفة، والجهل، والرضا، والغضب، والنوم، واليقظة"6.

فحين يولد الطفل تكون صفحة خاطره بيضاء صافية لا يوجد فيها أي معرفة: ﴿وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا(النحل:78) لكن الله تعالى قد جهز الطفل بالغرائز كالشهوة والغضب والنوم واليقظة لاستمرار حياته. ففي هذا الحديث يرى الامام الصادق عليه السلام أنه لما كان الطفل فارغاً من أي علم أو معرفة فإن فطرة المعرفة تعتبر من الافاضات الالهية في الطفل، ولذلك قد ذكرها في عداد الغرائز الفطرية.

5- عن محمد بن حكيم، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: "المعرفة من صنع من هي؟ قال: من صنع الله، ليس للعباد فيها صنع"7.

6- عن أبي ربيحة، قال: "سئل أمير المؤمنين عليه السلام: بما عرفت ربك؟ قال: بما عرفني نفسه!"8.

7- عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام أنه "سئل عن المعرفة أمكتسبة هي؟ قال: لا، فقيل له: فمن صنع الله وعطائه هي؟ قال: نعم، وليس للعباد فيها صنع"9.

يستفاد من النصوص المتقدمة، والروايات الأخرى الواردة في الباب أن الإسلام يعتبر ـ بكل صرا حة ـ معرفة الله أمراً فطرياً عند الانسان، ويرى أنها من الثروات الطبيعية فيه، شأنها في ذلك شأن بقية الغرائز.

مطالعة كتاب الخلقة
يسلك الأنبياء بين الناس بالنسبة إلى المعرفة الالهية دور المذكر لا المعلم فانهم يقومون بإزاحة أستار الغفلة عن الضمير الباطن والفطرة الانسانية، إنهم جاؤوا ليوصلوا المعرفة الفطرية الاجمالية إلى مرحلة الايمان الاستدلالي العقلي التفصيلي عن طريق الارشاد إلى التفكير والتدبر في الآيات، وعن طريق مطالعة كتاب الخلقة، حيث تتجلى مظاهر الدقة والاتقان في كل ذرة من موجودات هذا الكون الفسيح، وبذلك ليؤمن الناس بعظمة خالقهم ويخضعوا له في مقام العبودية ويطيعوا أوامره.

إن المعرفة الفطرية قابلة للتوضيح بأسلوبين:

1- إدراك القدرة اللامتناهية:

يدرك كل فرد من أفراد البشر من أي طبقة كان، وإلى أي عنصر انتمى بوجود قدرة لا متناهية وقوة عظيمة مسيطرة على الكون كله، وذلك بفضل وجدانه الفطري... قدرة عظيمة لا توصف وقوة ثابتة لا تتغير، قدرة فوق جميع القدرات، وقوة يرجع إليها كل فرد عند اليأس من السنن الطبيعية والعادية للأشياء، وفعندما تغلق بوجهه جميع أبواب الأمل والرجاء يجد باب تلك القدرة مفتوحاً ويستعين بتلك القدرة اللامتناهية، يدرك بوجدانه أن تلك الذات المجهولة، تلك الحقيقة المستترة، تلك القدرة اللامتناهية إذا أرادت حلت المشكلة وفتحت جميع الأبواب. هذا الادراك ليس ناشئاً من العقل والبرهان، بل إنه ناشئ من الوجدان والفطرة وهو موجود في باطن كل فرد، ويكون جزءاً أساسياً من كيانه، هذا الادراك الفطري هو الأساس الأول للتدين... ولقد عرف الأنبياء هذه الحقيقة المجهولة باسم (الله).

" قال رجل للصادق عليه السلام: يابن رسول الله، دلني على الله ما هو؟ فقد اكثر علي المجادلون وحيروني... فقال له: يا عبد الله هل ركبت سفينة قط؟

قال: نعم!

قال: وهل كسرت بك حيث لا سفينة تنجيك، ولا سباحة تغنيك؟!

قال: نعم.

قال: فهل تعلق قلبك هنالك أن شيئاً من الأشياء قادر على أن يخلصك من ورطتك؟ قال: نعم!

قال الصادق عليه السلام: فذلك الشيء هو الله القادر على الانجاء حيث لا منجي، وعلى الاغاثة حيث لا مغيث"10.

ولقد أشار علماء العصر الحديث إلى هذه الحقيقة بألفاظ وكلمات مختلفة:

يقول ماكس مولر: "إن الاحساس اللامتناهي يوجب نشوء العقيدة والدين"11.

ويقول انيشتين: "إن عقيدتي هي عبارة عن الحمد المتواضع الضئيل لروح فائقة لا حدية"12.

أما جان جاك روسو فيقول: "ليس طريق الايمان بالله منحصراً في العقل وشكوكه وأوهامه، بل إن الشعور الفطري هو أفضل طريق لا ثبات هذا الموضوع13.

والذين لهم أدنى معرفة بأسلوب تفكير فرويد وأتباعه يعلمون أنهم كانوا مصرين على إنكار الفطريات الايمانية والأخلاقية، وأنهم يعتبرون الدين والمذهب أمراً من صنع البشر. أما في مقام المعرفة الفطرية فقد وقعوا في مأزق حرج واضطروا إلى التراجع قليلاً والتحدث بأسلوب أهدأ وأقل إثارة...

"لا يمكن الانكار أنه يوجد بعض الأشخاص يقولون أنهم يحسون في أنفسهم إحساساً لا يستطيعون وصفه بصورة جيدة. هؤلاء يتحدثون عن إحساس يتصل بالأبدية".

"هذا التصور الذهني ينعكس من إحساس أبدي معروف عند العرفاء الكبار، وفي التفكير الديني الهندي. ويحتمل أن يكون أساس الشعور الديني الذي يظهر بصورة العقائد والمذاهب المختلفة".

"إن فرويد يتردد في هذا الموضوع، ويقر بأنه لم يستطع بتحليلاته النفسية أبداً أن يجد أثراً لمثل هذه الاحساسات في نفسه. ولكنه يضيف رأساً وبصراحة كاملة أن هذا لا يسمح له بإنكار هذا الاحساس بالنسبة إلى الآخرين"14.

2- ربط المعلول بالعلة:

يستطيع كل فرد أن يدرك بواسطة وجدانه الفطري ومن دون حاجة إلى معلم أو مرب، أن كل معلول يحتاج إلى علة، ولا يوجد أثر بلا مؤثر.

المصنوع يحتاج إلى صانع، والبناء يحتاج إلى بناء، ان الوجدان الفطري الذي يربط بين الأثر والمؤثر طبيعي إلى درجة أن الطفل بمجرد أن يصبح قادراً على التكلم يسأل أمه باستمرار عن علل الحوادث المختلفة، هذه الأسئلة ليست ذات صلة بالتفكير ولا ناجمة من المحاسبة العقلية، لأنه لا يدرك المسائل العقلية بعد. وهكذا فان أكثر القبائل البشرية الوحشية تملك هذا الوجدان الفطري. يقول الشريف الرضي رحمه الله عند شرحه لبعض روايات الفطرة:

"وهذا يدلك على أن فطرة إبن آدم ملهمة معلمة من الله بأن الأثر دال دلالة بديهية على مؤثره بغير ارتياب"15.

ما أكثر الأفراد الذين استفادوا من كنز المعرفة الفطرية عندهم بفضل إيمانهم ووعيهم، وتوصلوا إلى وجود الله الخالق الحكيم عن طريق التفكير والتدقيق في آية أو عدة آيات الهية، ووقفوا خاضعين له في مقام العبودية مطيعين أوامره ونواهيه... وعلى العكس فما أكثر الأفراد الذين لم يلتفتوا لنداء الفطرة المنبعث من أعماقهم وتجاهلوا الحقيقة، ولم يتوفقوا لعبودية الله والخضوع له حتى يوماً واحداً، طيلة حياتهم. وكذلك ما أكثر الأفراد الذين حاولوا إحياء المعرفة الفطرية في نفوسهم، ولكنهم ضلوا عن الطريق المستقيم، وعبدوا الجماد والنبات والحيوان، أو الشمس والقمر والنجوم بدلاً من خالق الكون.

ولأجل أن يتضح معنى المعرفة الفطرية للقراء الكرام أكثر نعقد مقارنة بين صنع الله وصنع البشر من حيث الدلالة على وجود الصانع ونتوصل ضمن المقارنة إلى بعض النتائج المفيدة.

إن القرآن الكريم يرى في الكون والموجودات كلها أنها صنع الله وتنظيمه... ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ(النمل:88). إذن فالله تعالى هو صانع العالم وجميع الموجودات مصنوعة له.

ولقد استعمل القرآن الكريم مادة الصنع بالنسبة إلى أعمال البشر أيضاً في عدة مواضع، فقال في موضوع سفينة نوح: ﴿وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ...(هود:38). وفي قصور فرعون والفراعنة يقول: ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ(الأعراف:137). وفي الأشياء السحرية التي صنعها سحرة مصر لمعاندة موسى ﴿وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا(طه:69). وفي صنع داود للدروع: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ(الأنبياء:80).

إذن فان جميع الطائرات والسيارات والمعامل والآلات والأدوات وجميع ما كونه البشر يكون من صنع الانسان كما أن جميع ما في العالم صنع الله، مع فارق واحد هو: أن الله يخلق المادة والصورة معاً، بينما الانسان يصنع المادة التي خلقها الله بالصورة التي يريدها.

ومن هذه المقارنة بين صنع الله وصنع الانسان نصل إلى بعض النكات التي تتعلق بموضوع بحثنا وهي:

1- الأثر يدل على المؤثر:

يدرك الانسان بصورة فطرية أن لكل مصنوع صانعاً، كما يدرك كل فرد مثقفاً كان أو أمياً، وحشياً أو متمدناً أن للطائرة والسيارة صانعاً صنعهما، وان للعمارات الصغيرة والضخمة بانياً بناها، ولقد كانت القبائل الوحشية تدرك هذا الموضوع أيضاً، فعندما كان أحد يرى آثار أقدام إنسان أو حيوان في صحراء واسعة مغطاة بالثلوج، كان يقطع بأن إنساناً أو حيواناً قد عبر من تلك المنطقة. وإذا صادف كوخاً صغيراً وسط صحراء قاحلة قائماً على بعض قطع الأخشاب والأشواك كان يحكم بوجود صانع لذلك الكوخ، وبالنسبة إلى الكون الذي هو صنع الله تعالى يوجد في فطرة كل إنسان هذا النوع من الادراك. فعندما يشاهد شروق الشمس والقمر وغروبهما، وعندما يرى الربيع واخضرار الأشجار أو الخريف واصفرار أوراقها، وعندما يلتفت إلى الرعد والبرق والمطر يحس في وجدانه الباطني أن قوة عظيمة وثابتة هي التي أوجدت هذا النظام فيميل إلى البحث عن مصادر هذه القوة. هذا الادراك الطبيعي الموجود في باطن جميع الأفراد بقلم القضاء الالهي هو تلك المعرفة الفطرية التي يعبر عنها الامام عليه السلام بأنها ليست اكتسابية وأنها مخلوقة من قبل الله في باطن كل فرد.

2- المعرفة الاجمالية والايمان التفصيلي:

إن كل فرد يدرك بفطرته أن للطائرة النفاثة صانعاً، وكل فرد يدرك بصورة طبيعية أن للقاح الخناق الذي يخلص آلاف الأطفال من الموت الحتمي مخترعاً، ولكن هذا لا يكفي في نظر جميع العقلاء والعلماء في الاشادة بفضل مهندس مخترع أو طبيب مكتشف. فلو أرادت دولة أو أمة أن تحترم جهود هؤلاء الذين خدموا البشرية يجب عليهم أن يتجاوزوا دور المعرفة الجزئية إلى مرحلة أرقى، وهي ذكر أسماء المخترعين وهوياتهم وتشجيعهم عن طريق تقديم الهدايا والجوائز إليهم.

وهكذا يدرك كل فرد بفطرته أن لهذا العالم الفسيح خالقاً وأن لهذا الأثر العظيم والعجيب مؤثراً، ولكن لا يكفي هذا في مقام الشكر لله تعالى وتعظيمه. بل يجب أن يخطو الانسان خطوة أوسع ويطلع على آثار قدرة الله ويؤمن به، ويشكره للنعم الكثيرة التي لا تحد ولا تحصى، وإن الفطرة الأولى لا تحتاج إلى معلم، والأنبياء جاءوا لهداية البشر في المرحلة الثانية.

3- عدم تقدير الجهود:

وبالرغم من أن الناس يستفيدون من مصنوعات بني جنسهم بصور شتى لكن القليل منهم يقدر جهود العلماء والمهندسين الذين صنعوا تلك المصنوعات، إن باستطاعة المريض المشرف على الهلاك أن يركب طائرة ويصل في ظرف بضع ساعات إلى أرقى المستشفيات في العالم وتجرى له عملية جراحية وينجو من الموت والألم. هذا المريض يعلم أنه لو لم تكن الطائرة، ولو لم يكن العقار المخدر، ولو لم تكن العقاقير المطهرة للجراثيم... ولو لم تكن عشرات الاختراعات العلمية فانه يموت... إن المريض يدرك بفطرته أن لكل من هذه المخترعات مخترعاً، ولكنه في سبيل العلاج والتطبيب لا يفكر إلا في نفسه والمنافع التي يحصل عليها من تلك الاختراعات غافلاً عن المهندسين العظماء والمخترعين الكبار الذين أوجدوا تلك الصنائع، ولا يتذكرهم في مقام تقدير جهودهم.

قد يقف الخطيب في قاعة ضخمة ويلقي محاضرة على عشرات الألوف من المستمعين موصلاً صوته إليهم بواسطة جهاز تكبير الصوت وهو يدرك بفطرته أن لهذا الجهاز صانعاً ولولاه لما استطاع أن يوصل صوته إلى هذا العدد الضخم من الناس. ولكنه غافل عن معرفته الفطرية ولا يتنبه إلى مخترع هذا الجهاز أصلاً، بل يفكر في رغبته فقط ويتنبه إلى وصول صوته إلى أكبر عدد ممكن من الناس فحسب.

هذا وإن الجميع يعلمون أن هذه الغفلة وعدم تقدير جهود المخترعين والمنشئين لا يغيران من الواقع شيئاً: فلكل مصنوعٍ صانع ولكل أثرٍ مؤثر.

إن موقف البشر تجاه صنع الله تعالى وتجاه عظمته في تدبير شؤون الكون يشبه الموقف السابق. فجميع الناس يستفيدون من نعمه التي لا تعد ولا تحصى كل يوم، وكلهم يدركون أن لهذا الخلق خالقاً، ولكل مصنوع صانعاً فبعضهم يقدرون عظمة الخالق ويشكرونه على نعمه ولكن البعض الآخر يتنكرون له ولا يعترفون له بالجميل والفضل والانعام...

العالم الالهي والعالم المادي كلاهما يلاحظان النظام الدقيق في الكون وكلاهما يدركان أسرار الحكمة والعظمة في العالم... مع فارق كبير بينهما هو أن العالم المادي يرى النظام فقط، أما العالم الالهي فانه يرى النظام والمنظم معاً. وفي نفس الوقت الذي يهتم فيه بدقائق صنعه، وشواهد عظمته يتجه إلى عظمة الخالق ويقف خاضعاً تجاه مقامه المنيع مقدماً مراسيم الشكر والثناء والاعتراف بالجميل.

4- المهندس القدير والصدفة العمياء:

لنفرض أنه يوجد في مخزن ما مليونا طن من الأحجار والطابوق والاسمنت والحديد والجص والأخشاب والزجاج واللوالب والمقابض والأسلاك والأنابيب وغير ذلك من المواد الانشائية. وكان مليون طن من هذه المواد تحت اختيار مهندس معمار، فانه يخرج تلك الكمية من المخزن وينشئ على أرض مسطحة عمارة ذات ثلاث طوابق... وبعد مدة يأتي سيل جارف ويخرج المليون طن من المواد الانشائية الباقية في المخزن إلى الخارج ويكومها على بعد بضع كيلومترات مكوناً تلاً من ذلك الخليط. العمارة ذات الثلاث طوابق إنما هي إنتاج ذلك المهندس القدير، والتل المتراكم عمل طبيعي للسيل.

إن العقلاء من كل أمة وفي أي عصر حينما يدخلون العمارة التي أنشأها المهندس يجدون أن كل شيء قد وضع في محله حسب نظام دقيق ومحاسبة أساسية: فالطابوق في داخل البناء والرخام فوقه والأعمدة الحديدية ذات القياسات الخاصة تحفظ السقف، والأبواب مرتبة في أماكنها والأسلاك مربوطة بالأزرار والمصابيح الكهربائية، وحنفيات الماء البارد والحار متصلة بالأنابيب ومعدة للعمل في الحمام والمغسلات، والسلالم تربط طوابق العمارة ببعضها حسب هندسة دقيقة... وبصورة موجزة فإن كل شيء في ذلك البناء موضوع في محله والنظام يسيطر على جميع أجزاء البيت.

أما حين يذهب العقلاء إلى التل الذي صنعه السيل، فلا يجدون نظاماً هناك. فأحجار الرخام قد ركدت تحت الطين وأعمدة الحديد مبعثرة هنا وهناك، والأسلاك متشابكة فيما بنهما وملتفة بصورة مشوشة حول الأعمدة والأحجار، والأبواب مكسرة وشبه مكسرة، البعض منها بصورة أفقية والآخر بصورة عمودية، وبصورة موجزة: فإن الشيء الذي يفتقد في نتاج السيل هذا، هو النظام والقياس الصحيح.

يتضح للناظر العاقل من مقارنة هذين النموذجين أن صانع العمارة كان عالماً، وأن صانع التل كان فاقداً للعلم والشعور، ولقد وضع المهندس كل شيء في محله حسب قياسات ومحاسبات دقيقة أما السيل فلم يكن نتاجه صادراً عن وعي وإرادة بل أن اندفاع الماء قد بعثر كل شيء في مكان ما من دون نظم أو ترتيب.

إن بناء الكون الفسيح ونظامه العظيم مركب من آلاف الملايين من الأجرام الكونية الصغيرة والكبيرة، وإن الكرة الأرضية التي نعيش على ظهرها إنما هي جزء صغير من تلك الأجرام التي لا تعد ولا تحصى، وأن الأحياء على ظهر هذا الكواكب من نبات وحيوان وإنسان كل منها ذرة صغيرة جداً بالنسبة إلى الكرة الأرضية نفسها. إن فطرة كل فرد ترشده إلى أن لهذا الصنع العظيم صانعاً وأن لهذا البناء المحير وهذا الأثر العجيب مؤثراً. وإن الالهيين والماديين يتفقون في هذا الأمر الفطري لكنهم يختلفون في معرفة هذا الصانع وتعيين هذا المؤثر.

يرى الماديون ـ أي المنكرون لله ـ أن الكون العظيم نتيجة الصدفة فقط فهناك ملايين الحوادث غير الاختيارية والعوامل غير الارادية طوال آلاف الملايين من السنين اجتمعت لتوجد هذا الأثر وتنشئ هذا البناء. وبعبارة أوضح: انهم يقولون ان العالم يشبه ذلك التل المبعثر والقائم على غير قياس ونظام... الموجود نتيجة جرف السيل لتلك المواد الانشائية.

أما الالهيون فانهم يرون أن مظاهر النظام والترتيب الدقيق تبدو في كل زوايا الوجود، وأن الصدفة العمياء والطبيعة الفاقدة للارادة والوعي غير قادرة على أن توجد هذا الأثر الحكيم والمليء إدراكاً ووعياً. إن الله العالم القادر الحكيم هو الذي أقام نظام الكون على أساس المحاسبة الدقيقة والنظام المتقن وبعبارة أوضح: فإن هذا الكون أشبه بتلك العمارة المنظمة الجميلة التي أنشأها تفكير المهندس القدير وعمله، حيث نجد كل شيء مستقراً في محله حسب قياس صحيح.

لقد استدل العالم الشهير داروين على عقيدته بالنسبة إلى الله تعالى في رسالة له إلى عالم ألماني عام 1873 م بهذه الصورة:

"إن العقل الرشيد والفكر السليم لا يشك أبداً في أن من المستحيل أن يوجد هذا الكون الفسيح مع هذه الآيات الواضحة والشواهد المتقنة، مع هذه النفوس الناطقة والعقول المفكرة نتيجة للصدفة العمياء الجاهلة. ذلك أن الصدفة العمياء لا تستطيع أن توجد نظاما دقيقاً وبناًء قويماً. وهذا في نظري أكبر شاهد على وجود الله. أنا لا أبحث عن بقية البراهين والأدلة التي تثبت وجود الله، لأن باستطاعة هذا البرهان وحده أن يقنع كثيراً من الباحثين والمتتبعين"16.

"يقول العالم الذائع الصيت انيشتين: يندر أن نجد شخصاً لا يملك بين أفكاره العلمية العميقة شعوراً دينياً. لكن ذلك الشعور الديني يختلف عن شعور البسطاء. إن شعوره الديني يكون في الغالب بصورة حيرة مجذوبة نحو الانسجام الدقيق المشاهد في الطبيعة هذا الانسجام يحكي عن عقل عظيم إذا قسنا التفكير البشري والنشاط الانساني معه كانا لا شيء تماماً"17.

سئل باستور بعد اكتشاف أسرار عالم الميكروبات عن رأيه في أصول الديانة فقال: إن عقيدتي بالدين قد ترسخت أكثر من السابق"18.

"ولكن في الاستطاعة أن نشير إلى شيء حدث منذ زمن بعيد، عند بدء الحياة على الأرض، وكان له شأن عظيم، ذلك: أن خلية واحدة قد نمت عندها القدرة المدهشة على استخدام ضوء الشمس في حل مركب كيمياوي، واصطناع غذاء لها ولأخواتها من الخلايا. ولا بد وأن لدات أخريات لخلية أصلية أخرى قد عاشت على الغذاء الذي أنتجته الخلية الأولى، وأصبحت حيواناً، في حين صارت الخلية الأولى نباتاً والنباتات التي هي نسل هذه الخلية هي التي تغذي جميع الكائنات الحية الآن، فهل يمكننا أن نعتقد أن كون خلية قد أصبحت حيواناً، وأخرى قد أصبحت نباتاً إنما حدث بطريق المصادفة؟"19.

لقد اتضح من البحوث السابقة أن للمعرفة الالهية أساساً فطرياً في باطن كل فرد، وأن هذه المعرفة الفطرية تتحول إلى إيمان تفصيلي بمعونة العقل والتدبر في الآيات الكونية، وأن أساس الايمان والمذهب قائم على الفطرة والعقل. وبالرغم من أن القرآن الكريم يستند في المعرفة إلى الفطرة ويعبر عن ندائها بـ (الدين القيم) فانه يدعو الناس إلى التدبر في أسرار الخلق ويأمرهم بالتعقل والتفكير.

إن الذين اتبعوا الأنبياء واهتموا بتربية بذور الفطرة في تربة العقل آمنوا بالله تعالى، ووقفوا خاضعين أمام عظمته وقدرته. أما الذين لم يصغوا لنداء العقل، ولم يوجهوا الفطرة بالتدبر والتعقل إلى الوجهة الصحيحة فانهم انحرفوا عن الطريق المستقيم وسار بعضهم في طريق المادية والاعتقاد بالصدفة بينما سار آخرون في طريق الوثنية وما شاكل ذلك.

الانحراف عن طريق الفطرة
لقد وجه الشيوعيون الذين يتبعون المبدأ الاقتصادي وينظرون كل شيء بمنظار الاقتصاد حملات شعواء ضد الدين والعقيدة.

"يقول لينين: إن الدين أحد وسائل الضغط الروحي على الطبقة الكادحة التي تكد لغيرها دائماً، وتعيش في الحرمان المستمر... إن الماركسية تعتبر جميع المذاهب الحديثة، والتنظيمات الدينية لعبة بيد الطبقة البرجوازية والهدف من ذلك كله هو استغلال الطبقة العاملة والحط من قدرها..."20.

هؤلاء يوجهون للتعاليم الدينية اتهامات في كتبهم لا يمكن أن تغفر. وكنموذج على محاولاتهم الهدامة والمخالفة للحقيقة نتعرض لموضوع الصبر في الاسلام وكيفية تفسير الشيوعيين له، بالرغم من أن الموضوع خارج عن دائرة بحثنا:

التفسير الخاطئ للصبر في الاسلام
كان رؤساء العشائر قبل ظهور الاسلام يحكمون بالظلم والقسوة جماعة من المساكين والضعفاء، وكانوا يستولون على أموالهم، ويذيقونهم شر العذاب. ولقد جاء الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله بأمر الله ليقيم العدل وينهي ذلك الوضع المخزي وليحفظ للضعفاء حقوقهم، ويضرب على أيدي الطغاة والظالمين.

ولقد ارتبك الجائرون من موقف النبي صلّى الله عليه وآله وقاموا لمناهضته واتفقوا للوقوف بوجهه... وكان على المسلمين الضعفاء أن يقفوا صفاً واحداً أمام جبهة الظلم والجور، وهذا عمل صعب يتطلب جهداً كبيراً. فأخذ القرآن الكريم في تشجيع معنويات المسلمين وحثهم على المقاومة، وأمرهم بالصبر في قبال السيوف والرماح، وطلب منهم مجابهة المصائب بصدر رحب مطمئناً لهم بأن الباطل سيندحر وأن النصر محتم لهم....

1- ﴿فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ(الأنفال:66).

2- ﴿وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ(البقرة:177).

3- ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ(محمد:31).

4- ﴿وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا(آل عمران:120).

5- ﴿فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(آل عمران:146).

فنجد أن القرآن الكريم يحث المسلمين على الصبر والثبات في مواجهة صفوف الجائرين ودعاة الباطل، ويدعوهم إلى عدم الرضوخ للباطل وعدم الاستكانة للظلم، وحمل راية التوحيد والحق، والعدل والحرية لطرد العدو.

أما الشيوعيون فانهم حين يصلون إلى هذه النقطة يقومون بخيانة كبيرة ويعملون على خلاف الانصاف والانسانية على تشويه الحقيقة وتفسير أمر الاسلام بالصبر تفسيراً يخالف الواقع فيقولون:

"لقد جاء الدين يؤيد مصالح الطبقة الحاكمة، ويحث العامل على الجد والتعب والتحمل، وفي قبال ذلك يعده بالجنة، ويقول ان الله يحب الذين يتحملون الآلام والمصائب ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ(آل عمران:146)"21.

يا للوقاحة! إنهم يعملون على نشر هذه التلفيقات والتحريفات ضد الدين لجرف شباب المسلمين الفارغي الأذهان... وليحكم رجال العلم والفضيلة في حق هؤلاء!!.

فرويد والفطرة
يمكن اعتبار فرويد وأتباعه ممن انصاعوا لكلماته دون وعي أو إدراك من جملة الماديين المنحرفين عن الفطرة، ولكنهم يسدلون ستار التحليل النفسي والبحث العلمي على انحرافهم ذاك.

وبما أن موضوعنا يدور حول الفطرة الايمانية والوجدان الأخلاقي لا بد من توضيح بعض النقاط عن موقف فرويد من هذه المسألة:

1- إنه لا شك في أن فرويد كان محللاً نفسياً حاذقاً. ولكن علم التحليل النفسي يختلف عن علم معرفة الانسان، وكما أن الطبيب يعرف مزاج الانسان وليس هو مزاج الانسان، فإن فرويد طبيب نفسي وليس تمام النفس الانسانية. وإذا حصر أحد البشرية كلها في علم النفس فقد ظلم الانسانية.

"ولن تكون رياسة السيكولوجيا أقل خطراً من الفسيولوجيا والطبيعة والكيمياء... فقد أحدث فرويد أضراراً أكثر من التي أحدثها أكثر علماء الميكانيكا تطرفاً،فإن من الكوارث أن نختزل الانسان إلى جانبه العقلي مثل اختزاله إلى آلياته الطبيعية الكيميائية"22.

2- لقد اعتنى فرويد في معرفة الانسان بالشهوة الجنسية قبل كل شيء. وبدلاً من أن يجعل بحثه يدور حول الانسان أخذ يبحث عن الجنس ونظر إلى الانسان من زاوية الميل الجنسي فقط. إن فرويد يرى أن الانسان السعيد هو الذي يروي ظمأه الجنسي باي طريق شاء. إنه لا يلتفت إلى السجايا الانسانية والملكات الفاضلة، ولذلك فهو ينتقد الأوضاع والتعاليم الدينية وقوانين العالم المتمدن في عدم فسح المجال وعدم إعطاء الحرية الكاملة للناس في إرضاء ميولهم الجنسية، ولم يرضى بهذا الظلم بالنسبة إلى الغريزة الجنسية:

"إن انتخاب أي موضوع من قبل فرد مراهق ينحصر في الجنس المخالف، وفي الغالب تمنع الميول الجنسية التي تحصل في الخارج من التوالد والتناسل وذلك بعلة الفساد والانحراف. إن هذا العمل يؤثر بنسبة كبيرة في جماعة من الناس ويبعث على تقليل لذتهم الشهوانية وبذلك يسبب إجحافاً شديداً".

"إن الشيء الوحيد الذي بقي لحد الآن حراً ولم يمنع منه هذا الميل نحو الجنس المخالف ضمن قيود خاصة أيضاً، لأن العلاقة مع الجنس المخالف يجب أن تكون مشروعة أولاً، ويجب أن يكتفي كل فرد بفرد واحد من الجنس المخالف فقط"23.

إن فرويد يدافع عن الشهوة الجنسية لسحقه للمثل الانسانية، ويعمل من أجل فسح المجال التام أمام ممارستها! إن اتباع مذهب فرويد في إرضاء الميول الجنسية معناه الانحراف إلى طريق الدعارة والفحشاء والشقاء. والأسلوب الفكري الفرويدي يسدد ضربة قاصمة إلى أساس تكوين الأسرة والحنان العائلي وتربية الطفل. إن تحليل كلمات فرويد في الغريزة الجنسية يجر وراءه سلسلة من النتائج الوخيمة التي ننزه اللسان عنها.

3- إن عقدة الحقارة في مدرسة التحليل النفسي الفرويدي مسألة قابلة للانتباه، فإن المصابين بهذه العقدة والذين يحسون بالحقارة في نفوسهم تظهر فيهم ردود الفعل المختلفة. فما أكثر سكون الناس وانزواءهم وتكبرهم وتواضعهم، ونصائحهم، واستدلالاتهم التي تنبع من عقدة الحقارة. لكن تظهر بالمظاهر الآنفة الذكر.

منشأ عقدة الحقارة عند فرويد
لقد كان فرويد معرضا للاستهزاء والسخرية في أيام شبابه نظرا لاعتناقه اليهودية، وإن جميع المترجمين له يصرحون بهذه النكتة:

"ولد سيجموند فرويد في 6 مايس 1856 في مدينة صغيرة (فرايبرك) واقعة في ولاية (مراوي)، لقد كان أبواه وأقاربه ينحدرون من عائلة يهودية قديمة، كانت على أثر الاضطهاد الذي كان يلاقيه اليهود في تلك العصور قد رحلت من (بالاتينا) الواقعة في (باوير) وسكنت في (مراوي). والنكتة التي يجدر ذكرها هي أن فرويد كان معرضاً لاستهزاء وإزدراء زملائه دائماً بالنسبة لمذهبه وعنصره. وإن رد الفعل الذي أوجدته تلك السخرية في نفسه، يظهر في ميله إلى التطرف والانزواء"24.

لقد أدى اعتناق فرويد اليهودية أن يعرض للتحقير والاستهزاء منذ الصغر، وبذلك سحقت شخصيته وعزة نفسه. هذا الأمر جعله ينظر نظرة تشاؤمية تجاه الدين الذي سبب له السخرية والازدراء. فقد كان التفكير في الدين يشوش عليه ويقض عليه مضجعه، وكان يعجز منه.

"لقد لخص فرويد بحثه في الاتجاه الديني في هذه الجملة: إني أجد نفسي مضطرباً وقلقاً عند البحث في أمثال هذه المسائل التافهة، واني أعترف بذلك دائماً"25.

يرى فرويد: أن الميول المكبوتة في أيام الطفولة لا تنمحي، بل تنتقل إلى الضمير الباطن وتنشئ ردودها المختلفة طيلة الحياة، ومن المناسب أن نستفيد من هذه الجملة ونتحقق عن ضميرة الباطن لنجد المظاهر التي أدت إليها شخصية فرويد المندحرة وعقدة الحقارة التي كانت ناشئة في ضميره الباطن من جراء السخرية الدينية.

رد الفعل لعقدة الحقارة
لم يقف رد الفعل الذي أدت إليه عقدة الحقارة في نفس فرويد عند حد الانزواء والابتعاد عن المؤثرات الدينية بل راح يثأر لكرامته وينتقم من الاستهزاءات التي حصل عليها تحت ظل اعتناقه اليهودية. ولقد استغل البحث النفسي لمناهضة الدين وأعمل جهده في إجتثاث أصول العقيدة وإذ كان هدفه على خلاف الحق والواقع، فقد أتى بقضايا واهية وكلمات لا أساس لها من الصحة أصلاً.

إنكار الفطرة
لما كان الايمان بالله الأساس الأول للدين في علم الانسان، ولما كان الالهيون والعلماء مستجيبين لنداء فطرتهم وتوجيه عقولهم إلى الايمان بخالق الكون الذي أودع فيه هذا النظام الدقيق وهذا الانسجام الكامل، فقد بدأ فرويد في إنكار الفطرة التوحيدية وكانت الخطوة الثانية التي أعقبها في هذا المجال، التغافل عن المنطق الاستدلالي والعقلي للعلماء وتعريف الدين بسلسلة من العوامل النفسية تحت ستار من التحليل النفسي.

إن نظرية فرويد بالنسبة إلى الأديان معروفة في جميع الكتب التي تعرضت لبيان نظرياته، وللاستشهاد ننقل هنا بعض العبارات من كتابين بهذا الصدد:

"لا يتفق أي دين مع دليل تام، فالدين توهم يتخذ قوته من نتيجة تلقي الميول الغريزية عندنا"26.

"لا يقوم الدين بأصوله وتعاليمه بعمل من وجهة نظر البحث النفسي، غير إيضاح القلق والاضطراب عند الأشخاص. وبعبارة أخرى فان فرويد يعتقد أن سبب ظهور الدين يرجع إلى ظاهرتين:

أ- القلق والاضطراب الانساني في قبال الميول الغريزية.
ب- خوف الانسان من الطاقات المتغلبة في الطبيعة".

"وعلى هذا فان فرويد على خلاف (روناك) لا يرى دخلاً للعقل في تكوين المذهب، ويعتبره أمراً نفسانياً فقط"27.

"يرى مذهب التحليل النفسي أن الاستنتاج الديني من الموجودات يرجع الى حالتنا الطفولية، إن الطفل يجد نفسه أمام عالم عظيم، وعلى الأم أن تؤمن مخاوف الطفل تجاه العالم كله وحمايته من الاضطرابات. وبعد ذلك يلقى عبء هذه المهمة على الآباء، فيجب عليهم القيام بدورهم طوال مدة الطفولة".

"إن الخوف الناشئ في الطفولة يمتد حتى البلوغ أيضاً وان الفرد البالغ يستأنس بجميع الأخطار التي تهدد حياته إنه يحتاج كالطفل إلى حماية شبيهة للتي يحتاجها في الاعوام الاولى من حياته في قبال أخطار العالم ومشاكله ولذلك فهو يبدأ ينظر الى تلك القوة التي فوق البشر وتلك الألوهية كشيء ذي حقيقة".

هل كان فرويد جاهلا في الواقع، أو أنه تجاهل بسبب عقدة الحقارة التي يحس بها ضد الدين، لأخذ الثأر؟!.

هل إن الآف العلماء الآلهيين الذين آمنوا في الماضي والحاضر بالله كان اعتقادهم مبنياً على أساس البحوث النفسية لفرويد؟!

أفهل كان السبب في اعتقاد حملة راية العلوم، وقادة التقدم العلمي بالله في العصر الحديث هو الخوف من قوى الطبيعة الظالمة كما يقول فرويد؟!.

هل آمن (انشتاين) ذلك العالم الذائع الصيت لأجل القلق والاضطراب من الميول الغريزية أو الخوف من الزلازل؟.

هل إن اعتقاد (داروين) بالله كان خو 2009-08-28