يتم التحميل...

أمور في دائرة الاستفهام

مكانة العلماء

هناك أمور موجودة في الحوزة وعند العلماء، تقع محل تساؤل لدى الناس، والإمام الخميني قدس سره ـ كما عرفناه دائماً ـ لم يكن بعيداً عن الأرض ومجرياتها،

عدد الزوار: 9

هناك أمور موجودة في الحوزة وعند العلماء، تقع محل تساؤل لدى الناس، والإمام الخميني قدس سره ـ كما عرفناه دائماً ـ لم يكن بعيداً عن الأرض ومجرياتها، وعن الناس وتساؤلاتهم، لذلك نجده في طي كلماته قد تعرّض للكثير من المفردات التي قد يتساءل عنها الناس بحكمته وحسمه ووضوح ـ كما اعتدناه ـ وسنستعرض هنا بعض هذه التساؤلات:

التفرغ للدراسة:
قد نجد بعض الناس ينظِّرون لعالم الدين وطالب العلم وأسلوب معيشته، ويحمّلون أنفسهم اقتراح كيفية كسبه الرزق، وتحصيل المعاش، فتجدهم يصلون إلى نتيجة تقول: يجب على عالم الدين وطالب العلم أن لا يكتفي بالدراسة والتحصيل وتحمل المسؤوليات الشرعية الملقاة على عاتقه، فعليه بالإضافة إلى ذلك أن يقوم بأعمال أخرى كالتجارة الزراعة أو أي عمل آخر يؤمّن له ولعياله لقمة العيش...

وهذا الكلام قد يجد قبولاً عند الإنسان العادي غير المطلع على معنى التعلم والتحصيل وتحمل المسؤوليات الشرعية تجاه المجتمع.

ولكن الإمام الخميني قدس سره له رأي آخر مقابل هذا الرأي، حيث يقول:

"إن الاجتهاد يعني الإطلاع على جميع القوانين الإلهية في مجال الشؤون الفردية والاجتماعية منذ ما قبل مجيء الإنسان
إلى الدنيا، إلى ما بعد رحيله من الدنيا، وله دخل مباشر في جميع الأعمال، ومثل هذا العلم بتفرعات قواعده وفروعه لا يتم ويكتمل خلال خمسين عاماً. هذا إن لم يكن للإنسان عمل آخر سوى التعليم والتعلم، فكل من يرى كتاب جواهر الكلام يدرك مدى جهود المجتهدين الذين يتطاول اليوم عليهم عدد من رواد الأزقة ليحددوا لهم تكليفهم، ترى هل أتانا الله والرسول بهذه الأحكام لنعمل بها أم أنها لم تكن سوى وريقات تمرين؟ فإن كانوا قد أتوا بها ليُعمل بها، فلا بد حينئذٍ من تحصل أحكامها، وبالطبع فإن هذا العمل يحتاج إلى الوقت، ووقته هو منذ بداية العمر إلى آخره، هذا إذا توجه إليه الشخص بجد وتحمل.

بعد تبيان هذه المقدمات الضرورية للمجتهدين والعلماء، والتي تفصح عنهم، فهل يمكنهم مزاولة عمل آخر؟ وهل يمكنهم ممارسة التجارة أو الكسب لتأمين أمر معاشهم مما يحتاج إلى وقت كامل وتفرغ أيضاً؟ ليس هناك أية شبهة في استحالة الجمع بين الأمرين، فإمَّا أن يتركوا الحوزات العلمية والاجتهاد جانباً، وأن يعتذروا للقرآن وأحكام نبي الإسلام، ويقولوا لهم: إننا منهمكون في أعمالنا، والعمل لا يتفق مع الدين ـ! وإذا كنتم تريدون القرآن وأحكامه، والنبي وأحاديثه عندئذٍ عليكم أن تدركوا استحالة انشغال هذه الطبقة بعملٍ آخر
"
1.
 

وكما هو معروف: العلم إذا أعطيته كلك أعطاك بعضه! أليس من الخيانة، أن يقصر العالم في تحصيل العلوم ليغتنم أوقاته في تحصيل الرزق، فيعطي الناس أحكاماً لم يستوفِ بحثها بالشكل المطلوب؟

إن بيان الأحكام الشرعية وهداية الناس هي أهم من كل مال يؤمنّ طعام شخص ولباسه وحاجياته، لذلك نجد الأئمة عليهم السلام ضمنوا لطالب العلم لقمة العيش، ليتفرغ لطلب العلم ويؤدي واجبه في البحث عن دين الله وتبليغه للناس ولا يشغل باله أمور أخرى.

الاختلاف بين العلماء
لا شك أن الأمور الأساسية والبديهية لا خلاف فيها بين العلماء، ولكن ستجد اختلافاً في بعض التفاصيل بين هذا العالم وذاك.

هذه الاختلافات قد تدفع بعض الناس إلى الاستغراب والتساؤل عن ذلك, لماذا هذا الاختلاف والتشتت في الآراء؟ وقد يتصور أن هذه الاختلافات جديدة وأن العلماء في السابق كانوا متفقين على كل هذه الأمور. فتحدث عنده حالة من الإحباط والتساؤل: إلى أين نحن نسير؟

نحب أن نطمئن هؤلاء الناس أن الأمر ليس كما يتصورون فعليهم أن يلاحظوا أمرمين:

أولاً: إن أغلب الاختلافات تكون في الفروع الثانوية لا في الأمور الأساسية والعناوين العريضة.

فإذا نظرنا إلى آرائهم في الصلاة اليومية ـ مثلاً ـ نجد خلافاً وقع في التسبيحات في الركعتين الثالثة والرابعة، فبعض المراجع أفتى بوجوبها مرة واحدة وبعضهم أفتى بوجوبها ثلاثا مرات.

إذا أخذنا هذا المثال لنقيّم طبيعة الخلاف، فسنلاحظ أن المراجع العظام لم يختلفوا على وجوب الصلاة، ولم يختلفوا في عدد ركعاتها، ولم يختلفوا في أركانها من قيام وركوع وسجود، فالصلاة هيئتها واحدة عند الجميع، فالاختلاف الحاصل في التسبيحات هو اختلاف في أمر فرعي لم يجعل هناك شكلين من الصلاة، إلى درجة أننا قد لا نلتفت إلى هذا المائز بين الصلاتين عملياً.

ثانياً: إن هذا الاختلاف ليس أمراً جديداً عند العلماء فتعدد الآراء والاختلافات أمر طبيعي، فما دام هناك بحوث وآراء سيكون هناك اختلافات، لذلك نجد هذه الخلافات موجودة منذ اليوم الأول الذي ظهر في علماء يبحثون.

وقد أشار الإمام الخميني قدس سره إلى هذه الحقيقة:
"إن كتب فقهاء الإسلام العظام مليئة باختلاف الآراء والأساليب الأذواق والاستنباطات في شتى المجالات العسكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والعبادية، حتى في المسائل التي يدعى الاجماع حولها نجد قولاً أو أقوالاً مخالفة لها، وحتى في المسائل المجمع حولها قد يوجد قول يخالفها، عدا عن اختلافات الأصوليين والإخباريين.

ولكن لما كانت هذه الاختلافات محصورة في الماضي بجو الدراسة والبحث والمدرسة، ولم تكن مثبتة إلا في الكتب العلمية، وبالكتب العربية منها فقط، لهذا لم تكن عامة الناس على علم
بها، وحتى لو علموا بها لم تكن متابعتها تثير اهتمامهم. والآن هل يحق لنا أن نتصور أن اختلاف الآراء بين الفقهاء يعني أنهم يعملون خلافاً للحق ولدين الله ـ نعوذ بالله ـ؟ كلا مطلقاً"2.

ويقول في كلام آخر:
"قد تكون استنباطات البعض مختلفة معنا، فلا يمكننا أن نغلق باب الاجتهاد، فالاجتهاد كان موجوداً دائماً، إنها موجود وسيبقى، كما أن المسائل التي تطرأ اليوم تختلف عن المسائل السابقة كثيراً، والاستنباط من أحكام الإسلام مختلف أيضاً. لذا علينا أن لا نتقاتل بسبب الاستنتاجات والاستنباطات"
3.

الحذر من الظواهر المستجدة:
من الأمور المهمة التي واجهها العلماء من اليوم الأول وتصدوا لها، موضع التغرب وتقليد الغرب، وجعله قدوة تحتذى في كل شيء.

إن غزو الغرب للعالم الإسلامي لم يكن غزواً عسكرياً فحسب، بل كان غزواً ثقافياً أيضاً، وقد سخّر الغرب كل وسائله للترويج لثقافته وجلب الأنصار والأعوان لها وتزيينها من خلال ما يملكه من وسائل دعاية، وتمريرها خلف انبهار الناس بالمكتشفات والاختراعات الجديدة.

ولم يعرف الناس التمييز بين الثقافة الاجتماعية وبين المخترعات
المادية، فصارت السلعة الغربية الجديدة ليست مجردة سلعة مادية يستفيد منها الناس في حياتهم اليومية، وإنما صارت رسالة تحمل في طياتها كل أشكال الدعوة للثقافة الغربية, رسالة استطاعت أن تغزو قلوب كثير من الناس وتبهر عيون الكثير منهم، وبالتالي استطاعت أن تسيطر على أفكارهم وثقافاتهم.

وقد فهم العلماء الأعلام هذا الأمر تماماً، وكانوا يحذرون الناس حتى من بعض مظاهر التمدن المستوردة خوفاً من التبعية والتقليد للغرب الذي تسلل من خلاله الثقافة الغربية.

وهذا ما أشار إليه الإمام الخميني قدس سره حيث يقول:
"إن مخالفة العلماء لبعض مظاهر التمدن في الماضي كان بسبب خوفهم من نفوذ الأجانب، فإن الإحساس بالخطر من انتشار الثقافة الأجنبية ـ وخاصة ثقافة الغرب المبتذلة ـ أدى إلى لزومهم جانب الاحتياط والحذر في التعامل مع الاختراعات والظواهر المستجدة، فكانوا لا يطمئنون لشيء، وكانت الأدوات من قبيل الراديو والتلفزيون يعدّان عندهم مقدمة لنفوذ الاستعمار، لهذا كانوا يصدرون أحياناً حكماً بمنع استعمالها"
4.

طريقة الدراسة والبحث في الحوزات:
إن الحوزات العلمية أخذت على عاتقها بيان الأحكام الإلهية الشرعية وقامت بهذا الدور على الدوام، ولم تكن بعيدة عن واقع الناس وهمومهم وحاجاتهم الحالية الملحّة، لذلك نجد إن اهتمام العلماء ينصبّ على حاجات الناس في العصر الذي يعيشون فيه، وكانوا يضعون المسائل التي هي محل ابتلاء الناس في سلم أولوياتهم.

ومع تغير حاجات الناس واتساع دوائر العمل تتسع أيضاً الأحكام الشرعية التي يحتاجون إليها وتتنوع المسائل التي يردون هدى الشرع فيها. لذلك كان من الطبيعي أن تتسع البحوث الإسلامية وتتنوع من زمن لآخر حسب حاجة الناس.

ومع قيام الجمهورية الإسلامية ومحاولة تطبيق نظام الإسلام اتسعت الحاجة لدراسة ومعرفة الحكم الشرعي بشكل لم يسبق له مثيل، وصار البحث في كل تفاصيل النظام والحكم بما يتلاءم مع متطلبات العصر أمر لا بد منه، ولا بد أن تقوم الحوزة بسد هذه الفراغات والحاجات.

ومن الطبيعي أيضاً أن نستفيد من العلوم الجديدة وأن نتبع الأساليب الحديثة في البيان، ولكن قد يختلط الأمر على بعض المثقفين فيتصورون أن من المطلوب أيضاً تغيير طريقة التفكير وطرق الاستدلال، فيتصور أن طريقة تفكير العلماء السابقين طريقة جامدة ومتحجرة وأن طرق استدلالهم أصبحت قديمة وغير مقبولة، فيحاول أن يطرح طريقة جديدة للتفكير ومنهجاً جديداً للاستدلال.

إن الإمام الخميني قدس سره قد أكد على الاستفادة من العلوم الجديدة، وشجّع على أتباع الأساليب الحديثة، ولكنه في نفس الوقت رفض بشكل قاطع تغيير طرق التفكير ومناهج الاستدلال، وأكد أن أسلوب
علماء السلف هو الأسلوب الصحيح، ولا بديل عنه، وأن طريقة التفكير الجواهرية5 هي الطريقة المفيدة، بل إنه قد اعتبر أن تضييع هذه الطريقة هو في الحقيقة تضييع للفقه كله وتضحية بهذه العلوم الإلهية التي أفنى علماؤنا الأبرار أعمارهم لأجل إيصالها إلينا بهذا الشكل الواضح والبيان القوي والمنهج المتين.

فلنتأمل في كلمات الإمام الخميني قدس سره حول هذا الموضوع:
"لا أتصور وجود طريقة لدراسة جميع جوانب العلوم الإسلامية دراسة معمقة أنسب من طريقة علماء السلف. فالتاريخ الذي تجاوز الألف عام من التحقيق والتتبع لعلماء الإسلام العظماء إنه شاهد على ادعائنا حول رعاية نبتة الإسلام المقدسة".

ويقول أيضاً:
"لقد كررت تأكيدي للجميع أن دروس الحوزات يجب أن تحفظ بنفس شكلها التقليدي، ويجب أن يكون الفقه نفس الفقه الموجود بين أيدينا، فإذا انحرفنا عن الفقه التقليدي سيختفي الفقه، احفظوا الفقه بنفس الشكل وبنفس القوة التي حفظ بها مشايخنا الفقه منذ البداية وإلى الآن"
6.

ويقول أيضاً:
"أما بالنسبة لأسلوب الدراسة والبحث في الحوزات، فإني اعتقد بالفقه التقليدي، واجتهاد الجواهري، وأرى التخلف عنه غير
جائز. فالاجتهاد بذلك الأسلوب صحيح، ولكن هذا لا يعني أن الفقه الإسلامي غير متجدد".

ويشير الإمام الخميني قدس سره إلى عدم التنافي بين الاستفادة من الأساليب الحديثة والبقاء على نفس المتانة والمنهجية، حيث يقول:
"يجب أن لا ننسى هذه المسألة وهي أنه يجب عدم تخطي الأركان المحكمة للفقه والأصول المتعارفة في الحوزات مطلقاً. طبعاً مع ترويج اجتهاد الجواهري بشكله المحكم والثابت، يستفاد من محاسن الأساليب الجديدة والعلوم التي تحتاجها الحوزات الإسلامية"
7.
 


1- من كتاب كشف الأسرار للإمام الخميني قدس سره.
2- من جواب له على رسالة الشيخ محمد علي الأنصاري 31/10/1988، صحيفة النور ج21، ص98.
3- من كلام له بتاريخ 29/6/1985 أما جمع من أعضاء جامعة مدرسي الحوزة العلمية في قم.
4- من نداء لسماحته إلى مراجع الإسلام وعلماء البلاد بتاريخ 22/2/1989.
5- إشارة إلى كتاب جواهر الكلام، وهو موسوعة فقهية على الطريقة القديمة.
6- من كلام لسماحته بتاريخ 3/2/1982 أمام جمع من أئمة الجمعة من محافظة خوزستان.
7- من تعليقة على تقرير شورى إدارة جامعة المدرسين في قم المقدسة. بتاريخ 6/5/1989.

2016-03-12