يتم التحميل...

الخوف والرجاء

المهتدون

قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقرعليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَتَحَرَّزْ مِنْ إِبْلِيسَ بِالْخَوْفِ الصَّادِقِ، وَإِيَّاكَ وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ، فَإِنَّهُ يُوقِعُكَ فِي الْخَوْفِ الصَّادِقِ"

عدد الزوار: 52

نصّ الوصية:
• قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقرعليه السلام موصياً صاحبه، وتلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَتَحَرَّزْ مِنْ إِبْلِيسَ بِالْخَوْفِ الصَّادِقِ، وَإِيَّاكَ وَالرَّجَاءَ الْكَاذِبَ، فَإِنَّهُ يُوقِعُكَ فِي الْخَوْفِ الصَّادِقِ"1.

العلاقة بين الخوف والرجاء
إنّ الخوف والرجاء حالتان تعرضان على النفس كثيراً، ويجب أن يكونا متلازمتين عند العبد المؤمن السالك مسالك المعصومين عليهم السلام ، بحيث لو حصل للإنسان خوف من الله تعالى بلا رجاء عبّر عنه باليأس من روح الله، أو حصل له رجاء بلا خوف عبّر عنه بالأمن من مكر الله، وقد ورد النهي عن كلّ حالة منفصلة عن الأخرى، "لأنّ الخوف رقيب القلب، والرجاء شفيع النفس، ومن كان بالله عارفاً كان من الله خائفاً، وإليه راجياً"2.

فالمطلوب وجودهما وتساويهما بحيث لو وزنا لم يتراجحا، فاللازم على العبد إذا فكّر في قدرة الله وعظمته أن يخاف منه ويخشاه، وإذا فكّر في عفوه وكرمه أن يرجو صفحه، وينبغي أن يتّسم الأمر بالقصد والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط في الخوف والرجاء، لأنّ الإفراط في الخوف يؤذي النفس ويجعلها في حالة اليأس من الرجاء والأمل، والرجاء إذا كان مجرّداً من الخوف الصادق، فهو باعث على الإهمال والتقصير والتمرّد على طاعة اللَّه تعالى، قال مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "خير الأعمال اعتدال الرجاء والخوف"3.

وقال حفيده الإمام الصادق عليه السلام: "ارج الله رجاء لا يُجرِّؤك على معاصيه، وخف الله خوفاً لا يؤيسك من رحمته"4.

وينقل لنا الإمام الصادق عليه السلام أنّ لقمان الحكيم قال وهو يوصي ابنه: "خف الله خيفة لو جئته ببر الثقلين لعذّبك، وارج الله رجاء لو جئته بذنوب الثقلين لرحمك"5.

شيمة المتّقين
الخوف من الله تعالى نوع من الخضوع والخشية أمام عظمته جلّ شأنه، والذين يحملون هذا الخوف طوبى لهم وحسن مآب، روى مولانا الإمام الباقر عليه السلام عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "...، طوبى لمن شغله خوف الله عن خوف الناس"6.

وقال الإمام الصادق عليه السلام: إنّ مما حفظ من خطب النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا إن المؤمن يعمل بين مخافتين: بين أجلٍ قد مضى لا يدري ما اللَّه صانع فيه، وبين أجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاض فيه، فليأخذ العبد المؤمن من نفسه لنفسه ومن دنياه لآخرته، وفي الشيبة قبل الكبر، وفي الحياة قبل الممات، فو الذي نفس مُحمّد بيده، ما بعد الدنيا من مستعتب، وما بعدها من دار إلاّ الجنّة أو النار"7، والخوف من الله تعالى هو من خصائص المؤمنين وسمات المتّقين، قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "الخشية من عذاب اللَّه شيمة المتقين"8.

والرجاء الصادق كذلك أيضاً فهو شيمة المتّقين العاملين، "لأن من رجا شيئاً طلبه"9، وقد ورد في الرجاء من النصوص الشريفة المروية والوصايا، والمواعظ والحِكم، المنقولة عن النبي الأكرم وأهل بيته الطاهرين، وصحابته والصالحين أكثر ممّا ورد في الخوف، فسِعة رحمة الله تعالى حقّ، ولكن لا بدّ لمن يرجوها من العمل الخالص المعدّ لحصولها، وترك الوغول في المعاصى المفوّت لهذا الاستعداد، وهذا هو الرجاء الصادق‏ الممدوح، وانظر الى سِيَر المعصومين من أنبياء ومرسلين وأوصيائهم أجمعين عليه السلام فإنّهم مع كونهم أعلم بسعة رحمة الله تعالى إلا أنّك تجدهم قد صرفوا أعمارهم في طاعة الله عزّ وجلّ لعلمهم بأنّ توقّع الأجر بدون الطاعة محض الغرور، والقول بأنّا نرجو بدون العمل قول زور، وأن الذين يقولون: "نرجو ولا يعملون هم قوم يترجّحون في الأماني كذبوا ليسوا براجين"10، قال مولانا الإمام أمير المؤمنينعليه السلام - فيمن يدّعي أنه راج -: "يدّعي بزعمه أنه يرجو الله، كذب والعظيم! ما باله لا يتبيّن رجاؤه في عمله؟! فكلّ من رجا عرف رجاؤه في عمله، وكل رجاء - إلا رجاء الله تعالى - فإنّه مدخول، وكلّ خوف محقّق - إلا خوف الله - فإنه معلول"11.

وكذلك الرجاء الذي يجعل العبد يحسب نفسه لائقاً بالعفو أو الإثابة، أو رؤية عمله حسناً جميلاً يستحقّ به الجزاء، فهو رجاء كاذب مذموم، وقد علّمنا إمامنا السّجاد زين العابدين عليه السلام في المناجاة أنْ نستعيذ بالله من هذا الرجاء: "وأعوذ بك من دعاء محجوب، ورجاء مكذوب، وحياء مسلوب،.."12.

الخوف جلباب العارفين
"إنّ من جملة المفاهيم التي تمّ التأكيد عليها في تعاليم الأنبياء، لا سيّما القرآن الكريم ومن بعده روايات أهل البيت عليهم السلام ، وطُرحت حولها مباحث عديدة هو مفهوم "الخوف" وفي مقابله مفهوم "الرجاء". وشبيه بالبحث الذي أوردناه حول الحزن فهناك بحث حول الخوف أيضاً. فقد أسلفنا أنّ الحزن - وفقاً للثقافة العالميّة - هو أمر لا قيمة له ولا يتمتّع بأيّ مكانة بين القيم الإنسانيّة، وإنّ علماء النفس يبذلون غاية وسعهم لإبعاد الإنسان عن كلّ ما يورثه الغمّ والحزن، وهناك حول الخوف ما يشبه هذا الكلام أيضاً، فقد شاهدتُ يوماً يافطة كُتب عليها نقلاً عن عليّ أمير المؤمنين عليه السلام قوله: "أعظم الذنوب الخوف"! ولا أدري ما هو مصدر هذا الحديث، بيد أنّه من المعروف أنّ الخوف مذموم في علم النفس. كما أنّهم يؤكّدون في العلوم التربويّة على ضرورة تربية الطفل بحيث لا يخاف من أيّ شيء. وقد تكون لهذا الكلام صحّة في الجملة, لكنّه مبهم، فإنّنا نُشاهد في المقابل بأنّ الخوف والخشية وما يُعادلهما تُذكر في القرآن الكريم بعنوان كونها قيماً إيجابيّة ويتمّ التأكيد على ضرورتها أيضاً، وبغضّ النظر عن الآيات التي تأتي على ذكر الخوف بصراحة فكلّما ذُكرت كلمة التقوى ومشتقّاتها تقريباً، فإنّه يندرج فيها مفهوم الخوف أيضاً، فالوقاية تعني حفظ النفس والتقوى هي: أن يحفظ الإنسان نفسه من الخطر، فعندما يُحاول الإنسان حفظ نفسه من شيءٍ مّا، فذلك لأنّه يخشى ضرره، ومن هنا فإنّ كلمة "التقوى" تتعدّى أحياناً إلى يوم القيامة كما في قوله: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ13، كما قد استخدم "الخوف" في آية أخرى ليعطي نفس المعنى أيض, وهو قوله: ﴿يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ14، وعلى أيّة حال فليس ثمّة من شكّ في أنّ للخوف والخشية، وما يُشابههما منزلة خاصّة في التعاليم الإسلاميّة.

وهنا يُطرح السؤال التّالي: هل هناك تضادّ بين مفاهيم القرآن الكريم والمفاهيم العلميّة المطروحة في علم النفس؟ إذ يقول علماء النفس: يتعيّن على الإنسان أن يُحاول أن لا يخاف من أيّ شيء. لكنّه هناك - في المقابل - تأكيد مبرم في القرآن والسنّة على ضرورة الخوف من الله، ومن يوم القيامة، ومن العذاب الإلهيّ. فكيف لنا أن نجمع بين الاثنين؟"15.

فِعل الله لا يخلو من حكمة
"المقدّمة التي قدّمتها في المحاضرة السابقة تنفع هنا أيضاً، فقد قلنا: إنّ ما خلقه الله تعالى في وجود الإنسان ليس لغواً، فالخوف هو أيضاً حالة شعوريّة وانفعاليّة في كيان الإنسان، وليس هو من قبيل اللغو، ولا بدّ أن يُستخدم في موضع معيّن. لكنّ المهمّ هو أن نفهم أين نستخدمه وممّن، أو من أيّ شيء يجب، علينا أن نخاف؟"

ينبغي الخوف من المعصية
"وهنا نُضيف مقدّمة أخرى وهي أنّه ليس في الله سبحانه وتعالى - ذاتاً - ما يوجب الخوف منه. فالله يتّصف بمنتهى الرأفة والرحمة. فالخوف من الله إذن يرجع لأنّه سبحانه لا يدع أعمالنا الاختياريّة القبيحة من دون عقاب، طبعاً بشرط أن يكون الذنب كبيراً وأنّ صاحبه لم يتُب منه بل ويصرّ عليه أيضاً و...الخ. إذن فالخوف من الله عزّ وجلّ هو - في الحقيقة - خوف من عقابه وعذابه. كما أنّ العذاب الإلهيّ لا يأتي عبثاً أيضاً فهو في الحقيقة بمثابة ردّ نتيجة أعمال الشخص القبيحة له. فإنّ علّة ما يحيق بالإنسان من أشكال المصائب والمحن والحرمان والعذاب في الدنيا والآخرة هي الذنوب التي يقترفها نفس الإنسان. إذن فما ينبغي أن نخاف منه - أصالةً - هو نفس ذنوبنا وخطايانا. ومن هنا فقد جاء في الخبر: "لا يَرجوَنّ أحد منكم إلاّ ربّه ولا يخافنّ إلاّ ذنبه"16. ولهذا فإنّ زمان العقاب ومكانه يكون مخيفاً أيضاً. ومن هنا فإنّنا نقول تارة: نحن نخاف الله، ونقول تارة أخرى: نحن نخاف من يوم القيامة، ونقول تارة ثالثة: نحن نخاف من جهنّم. وإنّ مآل جميع ذلك في الحقيقة إلى خوفنا من ذنوب أنفسنا".

معنى الخوف ومراتبه
"يظنّ البعض أنّ للخوف والجُبْن نفس المعنى، في حين أنّ الجبن هو صفة أخلاقيّة في وجود الإنسان تجعله لا يجرؤ على الإقدام على مهمّات الأمور. وهي صفة قبيحة تقع في مقابل الشجاعة.

أمّا الخوف فيُغطّي طيفاً واسعاً من حالات الإنسان, فمرتبة من مراتب الخوف تكون غير اختياريّة، وهي ما يُطلق عليها علماء النفس حالة انعكاسيّة, كأن ينتفض المرء عند سماعه لصوت عالٍ ومفاجئ. وهي حالة غير اختياريّة وغير مذمومة إطلاقاً ولا يتعلّق بها أمر ولا نهي. أمّا المرتبة التي تليها فإنّ لاختيار المرء وشعوره وتحليله الذهنيّ أثراً طفيفاً في ظهورها على الرغم من أنّها تحدث بسرعة فائقة، ويتعلّق بها الأمر والنهي أيضاً. يقول القرآن الكريم عندما واجه نبيّ الله موسى عليه السلام سحر السحرة: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى17، وقد جاء في الخبر أنّ خوف موسى عليه السلام هذا كان من أن يرتعب الناس من هذا السحر فيضيع الحقّ. فإنْ كان الأمر كذلك فإنّ هذا الخوف كان قد حصل بعد تفكير وتأمّل. وقد تصل مراتب الخوف إلى درجة توشك روحُ المرء فيها على الانفصال عن جسده. وكلمة الخوف تُطلق على كلّ هذه المراتب"18.

هل الخوف محبَّذ أم غير محبَّذ؟
"هل الخوف هو حالة حسنة يا ترى؟ كما سبق أنْ قُلنا في المحاضرة الماضية فإنّه ليس لأيّ من الخوف أو الحزن أو السرور حُسن أو قُبح من الناحية الأخلاقيّة بذاته, بل إنّ الأمر يرتبط بالحال التي يظهر فيها وبالعامل المسبّب له وبكمّيته وكيفيّته. فالإنسان بشكل طبيعيّ يقلق عندما يشعر بالخطر أو يُصيبه الضرر فتنتابه حالة من الخوف. فهذه الحالة في حدّ ذاتها ليست هي فضيلة ولا رذيلة أخلاقيّة. لكنّه إذا تغلّبت هذه الحالة على المرء وأصبحت حالة ثابتة فيه وصار يخشى باستمرار من أن تُسلب منه النعمة الفلانيّة أو يفقد كرامته واحترامه عند الناس أو يُطرد من منصبه أو ما إلى ذلك فهي حالة سيّئة تُعيقه عن أداء واجباته وتجعله دائم الاضطراب. أمّا إذا كان الخوف مساعداً على تكامل الإنسان روحيّاً ومعنويّاً وتقريبه إلى الله فهو خوف حسن. وهذه هي الحكمة من وجود الخوف عند الإنسان, وهي أن يحفظ المرءَ من الأخطار ويحول بينه وبين الوقوع في أشراك الشياطين والأعداء. فإنّ ما يحظى بأهمّية عند المؤمن هو السعادة الأبديّة، وليس الأمور الدنيويّة. إذن فخوف المؤمن يكون من تبعات أعماله في عالم القيامة والتي تتجسّد في جهنّم, فهو لذلك يخاف منها"19.

خوف أهل المعرفة
"لكنّ الخوف من العذاب هو أوطأ مراتب الخوف عند المؤمن. فللمؤمنين - حسب مراتب إيمانهم ومعرفتهم - أشكال أخرى من الخوف هي أعظم قيمة بكثير من هذا الخوف, كالخوف من السقوط من عين الله تعالى. فالذين يشكون من ضحالة في المعرفة لا يعرفون قيمة لطف الباري عزّ وجلّ، ولذا لا يحظى هذا الأمر بأهمّية عندهم. فعندما يريد القرآن الكريم أن يوضّح عاقبة أهل الشقاء فإنّه يقول: ﴿وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ20، فهل فكّرنا يوماً بأنّه ما الذي سيحصل إذا لم ينظر الله إلينا يوم القيامة؟ وهل يتمتّع هذا الأمر بأهمّية عندنا أساساً، أم إنّ المهمّ عندنا هو الحصول على نعم الجنّة؟ فالأطفال الذين يتمتّعون بفطرة سليمة يُدركون هذا النمط من العذاب, فإنّ أقسى أنواع العذاب للطفل هو أن تستاء أمّه منه فلا تلتفت إليه، لكنّ قليلي المعرفة من الناس لا يُدركون مثل هذه العلاقة مع الله، فكيف لهم أن يعرفوا ما الذي سيحصل إذا استاء الله منهم. لكنّه في اليوم الذي يكونون فيه بحاجة لمثل هذه النظرة فسيُدركون مدى شدّة العذاب الناجم من حرمانهم منها. فبعض عباد الله يخشون استياء الله منهم وعدم تحدّثه إليهم، ولا يخافون من جهنّم. وهذا أيضاً نمط من أنماط الخوف من الله. فكلّ مَن حاز حبّ الله في قلبه كان خوفه من استياء الله أكثر، وحتّى إذا كان متنعّماً بألطاف الله تعالى فإنّه يخشى انقطاع تلك الألطاف.

فإذا أمعنّا النظر في أحوالنا وسلوكيّاتنا الاختياريّة فسنُلاحظ أنّ العامل من وراء حركاتنا ونشاطاتنا الاختياريّة هو إمّا خوف الضرر أو رجاء النفع. وإنّ اختلاف الناس في سلوكيّاتهم ناشئ عن اختلافهم في تشخيص الضرر أو النفع, وإلاّ فأيّ تصرّف يقوم به أيّ امرئ فإنّ الغاية منه هو دفع ضرر ما عن نفسه أو جلب نفع ما لها. فلا بدّ أن يكون أحد هذين العاملين الاختياريّين مؤثّراً في جميع أفعالنا الاختياريّة. حتّى العاشق فإنّه يشعر - بسبب سلوكه مع معشوقه - بلذّة عقلانيّة ولطيفة في روحه وهو يسعى عن غير وعي وراء هذه اللذّة. إذن فهو أيضاً يُفتّش عن لذّة نفسه من خلال عدّة وسائط.

إذن فسلوكنا الاختياريّ هو إمّا لدفع ضرر أو لكسب فائدة. فعندما نحتمل وجود الضرر تصدر منّا ردّة فعل طبيعيّة لهذا الاحتمال تُدعى "الخوف". فالخوف إذن هو حالة طبيعيّة تحصل عند احتمال الضرر، ولا نكاد نجد في عالم الطبيعة إنساناً لا يكون الضرر محتملاً بالنسبة له. أمّا بالنسبة للمؤمن فهناك أضرار أهمّ من تلك وهي الأضرار الأخرويّة. ومن هنا فإنّ من أهمّ العوامل التي تدفعنا للمضيّ في طريق الكمال هو الالتفات إلى الأضرار التي تُهدّد سعادتنا الأبديّة. فالالتفات إلى هذه الأضرار يوجب الخوف, وهو حالة الانفعال التي تحصل للإنسان في مقابل احتمال الضرر. وإنّ تأكيد القرآن الكريم على مفاهيم من قبيل الخوف، والخشية، والتقوى، والوجل، والرهبة، وأمثالها ثمّ الإطراء عليها بأشكال شتّى يأتي من باب أنّ هذه الحالات هي أهمّ العوامل لحركة الإنسان التكامليّة. وبالطبع فإنّ هذه الحالات تقترن برجاء النفع أيضاً، وإنّ كلا العاملين مهمّ, غير أنّ تأثير الخوف يفوق تأثير الرجاء. نفهم من ذلك أنّ الخوف يُعدّ عاملاً مهمّاً من عوامل السعادة, هذا - بالطبع - إذا كان الخوف من الأخطار المعتنى بها، وليس ثمّة من ضرر يُمكن أن يُعتنى به بالنسبة للمؤمن أشدّ من الأخطار الأخرويّة, وهي الأخطار المتعلّقة بالساحة الإلهيّة المقدّسة. ومن هنا فلا بدّ من تقوية هذا الخوف"21.

كيف يبعد الخوفُ الصادق الشيطانَ
"إنّ أفضل آثار الخوف من الأضرار الأخرويّة هو حفظ المرء في مقابل الشيطان. فعندما يريد الشيطان أن يوسوس للإنسان ويدفعه إلى اقتراف المعصية فإنّه يُزيّنها في نظره بحيث يظنّ الإنسان أنّ فيها ألفَ درجة من اللذّة. وإنّ العامل الوحيد الذي يُمكنه جعل المرء يصمد في وجه تزيينات الشيطان ويجعلها غير ذات أثر عليه هو حالة الخوف من التبعات السيّئة للذنب التي تتمثّل، بالدرجة الأولى، في العذاب الأخرويّ والحرمان من رضوان الباري عزّ وجلّ والسقوط من عين الله. فإنْ أردنا أن لا نقع في أشراك الشيطان إلاّ قليلاً، أو أن لا نقع على الإطلاق إن شاء الله، فإنّه يتعيّن علينا السعي وراء حالة الخوف الحقيقيّ. فإنّنا نتظاهر بالقول: إنّنا نخاف الله، لكنّنا عندما نتأمّل في الموضوع جيّداً نُلاحظ أنّ خوفنا من الله ليس جدّياً. ومن ناحية أخرى فنحن ندّعي رجاء رحمة الله تعالى. فبعض المذنبين يقولون تبريراً لأعمالهم القبيحة: "إنّ رحمة الله واسعة وسيغفر لنا. نحن نرجو رحمة الله"! ونفس هذه التبريرات هي من تسويلات الشيطان أيضاً. فطالما أكّد النبيّ الأعظم وأئمّة أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام على أنّ العديد من أشكال الخوف التي تدّعونها ليست هي من نوع الخوف الصادق، كما أنّ العديد من ألوان رجائكم ليست من صنف الرجاء الحقيقيّ، ولا بدّ أن تجتهدوا ليكون خوفكم ورجاؤكم صادقين. فإذا كان المرء يخشى شيئاً فسيُحاول الابتعاد عنه. فنحن نقول: إنّنا نخشى عذاب الله، لكنّنا نسعى لاقتراف الخطيئة. فأيّ خوف هذا؟! إنّه خوف كاذب. ومن جانب آخر فإنّنا ندّعي رجاء رحمة الله سبحانه. لكنّ الذي يرجو شيئاً فإنّه يحاول أن يبلغه بسرعة. وكلّما زاد رجاء المرء بشيءٍ مّا فسيزداد سعيه للوصول إليه. لكنّنا إذا لم نسع وراء أمر ما فذلك بسبب استبعادنا لحصول النتيجة منه. فلو كنّا نأمل حقيقةً أنّه سيُعطي النتيجة المرجوّة فسنبذل جهدنا للوصول إليه بسرعة. فالذي يدّعي الرجاء ثمّ لا يُمارس العبادة فهو يكذب, فكيف يبذل غاية المجهود لبلوغ الأمور الأخرى التي يُرجى نيلها في الدنيا في حين أنّه لا يبذل أدنى جهد للظفر برحمة الله تعالى على الرغم من قوله: إنّني أرجو رحمة ربّي؟! إذن فادّعاؤه هذا لا يعدو كونه كذباً".

يقول الإمام الباقر عليه السلام لجابر: "وتحرّز من إبليس بالخوف الصادق وإيّاك والرجاء الكاذب فإنّه يوقعك في الخوف الصادق", فإن رُمتَ أن تُصان من شرّ الشيطان فعليك بالخوف الصادق وتجنّب الرجاء الكاذب! لأنّه يوقعك في موقف يستدعي منك الخوف الصادق. فإذا كان للمرء رجاء كاذب في شيء, كأن يقول: إنّني أرجو رحمة الله، ثمّ لا يسعى لكسبها، فسيوقعه هذا الرجاء الكاذب في فخّ المعصية التي ستجعله في موقف يستلزم منه خوفاً صادقاً، أي العذاب، وقد تكرّرت عبارة: "الخوف الصادق" في هذا المقطع مرّتين مع فارق بسيط بين الاثنين، فعندما يقول عليه السلام: "وتحرّز من إبليس بالخوف الصادق" فهو يقصد: حاول أن تستشعر خوفاً جدّياً، وعندما يقول: "وإيّاك والرجاء الكاذب فإنّه يوقعك في الخوف الصادق" فهو يريد: أنّ رجاءك الكاذب سيوقعك في فخّ الخطيئة التي ستجعلك في موقف يتطلّب منك خوفاً صادقاً. وكأنّ كلمة: "موقف" هي مقدّرة قبل عبارة: "الخوف الصادق" وقد حُذفت"22.

نفعنا الله وإياكم، وصلى الله على الحبيب المصطفى مُحمد وآله الطيّبين الطاهرين.

* كتاب المهتدون، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص164، باب وصايا الباقر عليه السلام.
2- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص390.
3- الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 91، الحكمة 1742.
4- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج70، ص 384.
5- م.ن، ج70، ص 354، و ص 390.
6- الشيخ الكليني، الكافي، ج8، ص 169.
7- م.ن، ج2، ص 70.
8- الآمدي التميمي، غرر الحكم ودرر الكلم، ص 94، الحكمة 1783.
9- الشيخ الكليني، الكافي، ج2، ص 68.
10- م.ن.
11- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج9، ص 226.
12- الإمام السّجاد علي بن الحسين عليهما السلام، الصحيفة السجادية، دعائه في المناجاة 199.
13- سورة البقرة، الآية 281.
14- سورة النور، الآية 37.
15- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 18 آب ، 2011 م.
16- ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج18، ص232.
17- سورة طه، الآية 67.
18- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 18 آب ، 2011 م.
19- م.ن.
20- سورة آل عمران، الآية 77.
21- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 18 آب ، 2011 م.
22- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 18آب، 2011 م.

2016-04-13