يتم التحميل...

طريق النور والسالكون النورانيّون

إضاءات إسلامية

طريق النور والسالكون النورانيّون

عدد الزوار: 15


 
الإنسان من حيث انّه موجود متحرّك وسالك، ولأجل انّ هدفه وغايته لقاء رحمة ربّ العالمين، لذلك فهو بحاجة الىٰ مسلك وصراط سليم من الإعوجاج والإنحراف آمن من كيد الشيطان وهو محتاج أيضاً الىٰ نور هداية يوضّح له الطريق ويرشده خطوة خطوة إلىٰ الهدف المنشود.

وقد أوضح الله سبحانه معالم طريق السلوك والوصول للسالكين نحو موطن رحمته، ودعا الجميع الىٰ السير والحركة لبلوغ صفاته الجماليّة.

والعبد السالك في هذه الآية الكريمة وبتعليم من الله سبحانه، يسأل الهداية نحو الصراط المستقيم، والهداية علىٰ نحوين: تشريعيّة وتكوينيّة.[1]

فالهداية التشريعيّة عبارة عن ايضاح المنهج والقانون المحقّق للسعادة وتعليم المعارف وتبليغ أحكام الدين، والأمر بالفضائل والنهي عن الرذائل عن طريق الوحي والرسالة، ويطلق علىٰ هذه الهداية عنوان: (إراءة الطريق). امّا الهداية التكوينيّة فهي انّ الربّ يزوّد القوىٰ العلميّة للإنسان ببصيرة خاصّة ويزوّد القوىٰ العمليّة له بجذب وهمّة وعزم مخصوص حتّىٰ يحصل له فهم أو رؤية المعارف الإلٰهيّة وسلوك الطريق وبلوغ الهدف الأخير طبقاً لما هو مطلوب، وبعبارة اُخرىٰ هي الأخذ بيد العبد السالك خطوة بعد خطوة حتّىٰ ايصاله الىٰ الهدف. ولذلك يطلق علىٰ هذه الهداية مصطلح: (الإيصال الىٰ المطلوب).

والهداية الّتي تُطلب من الله في الآية الكريمة: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ هي الهداية التكوينيّة[2]، لا التشريعيّة لأنّ قائلها (المصلّي أو قارئ القرآن) وبعد معرفة الله، وتلقّي معارف وأحكام الدين والإرتباط بها يسأل الله الهداية. فهو ليس في صدد تحصيل الحاصل بل هو يريد هداية نورانيّة بحيث علىٰ ضوئها يتعرّف علىٰ الطريق جيّداً ويشخّص هاوية السقوط المحيطة به أيضاً: «اليمين والشمال مضلّة والطريق الوسطىٰ هي الجادّة».[3]

والسرُّ في أنّ العبد السالك يجب أن يستمرّ دائماً في طلب الهداية الىٰ الصراط المستقيم من الله سبحانه (في الصلاة أو تلاوة القرآن) هو انّ الإنسان في طريقه الىٰ الله يمرّ بمنازل ومراحل كثيرة، والإنسان كلّما نال مرتبة من مراتب الكمال وإن كان قد أصبح بصيراً ونورانيّاً بالنسبة إلىٰ المرتبة السابقة ولكنّ استمرار ذلك الكمال وبقاءه يحتاج الىٰ استمرار الإفاضة، كما انّ هذه المرتبة بالنسبة الىٰ المراتب الأعلىٰ منها تعدّ ظلاماً وعمىٰ، ولذلك ترىٰ حتّىٰ أولياء الله الّذين اجتازوا الكثير من مراتب الكمال لازالوا لم يبصروا الكثير من الحقائق مثل كليم الله موسىٰ (عليه  السلام) الّذي يقول: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْك﴾.[4] ولهذا فإنَّ كلّ من نال مرتبة من الكمال في المعرفة والعمل يجب عليه أن يطلب من الله ترسيخ قدمه في تلك المرتبة ويسأل الله قائلاً: «لاتنزع منّا صالحاً أعطيتنا»[5]، «فلا تسلب منّي ما أنا فيه»[6] هذا من جهة، ومن جهة اُخرىٰ يسأل الله أن يأخذ بيده نحو مراتب أعلىٰ ويطلب منه نور الهداية كي يتّصل حدوث الكمال ببقائه وترتبط مراتبه الأوّليّة والابتدائيّة بمراحله الأخيرة والنهائيّة، كما انّه في مجال تطبيق الحكم الكلّي علىٰ المصداق وتعيين التكليف يكون بحاجة الىٰ الهداية والتسديد.

والهداية التشريعيّة والإطّلاع علىٰ معارف الدين وإن كانت ضروريّة وهي الوسيلة لاتمام الحجّة، لكنّها أحياناً لا تكفي وحدها لبلوغ المقصد وليس لها الأثر المطلوب كما حصل للكثير من علماء الدين والخبراء بأحكام الشريعة وحِكَمها ممّن تدنّست أيديهم بالذنب بسبب حرمانهم من البصيرة والرؤية الباطنيّة لحقيقة الذنب الكريهة. فالهداية التكوينيّة ونور البصيرة الباطنيّة هي الّتي تحفظ العبد السالك وتزوّده بالحصانة.

والمصلّي في هذا الفصل من سورة الحمد ومن خلال سؤاله من الله التوفيق لصيانة وحفظ ما حصل عليه سابقاً فإنّه يطلب من الله الوصول الىٰ المراتب الأعلىٰ الّتي من جملتها شهود باطن العالم وحقيقة وباطن الذنب. وهذه الهداية والبصيرة في مقابل «العمىٰ» الباطنيّ. فالهداية ليست فقط (علم القلب) بل (بصيرة القلب)، والمهتدي ليس فقط من (يعلم) الحقّ بل هو من (يرىٰ) الحقّ. والقرآن الكريم يعتبر العلم هداية إذا أدّىٰ الىٰ البصيرة وأثمر العمل، وفي غير ذلك فانّ العالم الفاقد للبصيرة مبتلىٰ بنحو من العمىٰ.
لذلك يقول الله سبحانه حول قوم (ثمود): ﴿وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَىٰ الْهُدَىٰ﴾.[7] وعليه فإنّ من يعرف الحقّ فحسب ولكن لايبصره ولايسلك طريقه فهو أعمىٰ، وهذا العمىٰ هو عمىٰ القلب وعين السِرِّ والباطن، وليس عمىٰ العين الظاهريّة الّتي هي في الرأس: ﴿فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَىٰ الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَىٰ الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور﴾[8] واُولئك الّذين استحبّوا العمىٰ علىٰ الهدىٰ أصيبوا بعذاب الذلّة والهوان: ﴿فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُون﴾.[9] وعذاب الذلّة عذاب معنويّ يحرق الروح والقلب وهو أسوأ من العذاب الجسمانيّ الّذي يتعلّق بالبدن: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُم بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَاب﴾.[10]

إذن فالهداية نور الباطن، والضلالة عمىٰ الباطن وقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيم﴾ يعني طلب المشاهدة والبصيرة من الله سبحانه.

والإنسان يتمتّع بالحصانة النسبيّة فيما يتعلّق بالاُمور الّتي حقيقتها مكشوفة وواضحة كإحراق النفس وتناول السمّ، وأولياء الله الّذين يرون جميع الذنوب بهذا النحو ودون حجاب فهم يتمتّعون بالعصمة المطلقة. وبهذه الرؤية والبصيرة ينظر الإنسان الىٰ الذنب فيراه ناراً محرقة وسمّاً مهلكاً فيتجنّبه، ومحلّ هذه البصيرة النافذة هو القلب المجرّد لا العين المادّية الظاهرة. فإذا ما رأىٰ الإنسان حقيقة الذنب القبيحة جدّاً ببصيرته الباطنيّة وأدركها كما هي فإنّه سيشمئزّ من الذنب كما يشمئزّ من الجيفة المنتنة.

والمؤمنون والصالحون الّذين حباهم الله بالهداية التكوينيّة، نورانيّون في الدنيا وفي الآخرة، امّا في الدنيا فيقول عنهم القرآن الكريم: ﴿وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاس﴾[11]، ﴿وَكَذٰلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلٰكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَن نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَ﴾.[12] وهذا النور ليس ثمرة للعلوم الحصوليّة، لأنّ الكثير من المنحرفين أيضاً لديهم العلوم الحصوليّة، لكنّ المؤمن بهذا النور يرىٰ هو بنفسه جيّداً ويهب للمجتمع الإنسانيّ الرؤية والبصيرة أيضاً. وأمّا في الآخرة فيقول عنهم القرآن الكريم: ﴿نُورُهُمْ يَسْعَىٰ بَيْنَ أَيْدِيِهمْ وَبِأَيْمَانِهِم﴾[13] أي انّ نور المؤمنين في الجنّة يسعىٰ أمامهم ويضيء ما حولهم.

تنويه: انّ الهدف النهائيّ والأساسيّ لرسالة الرسل هو إخراج الناس من الظلمات الىٰ النوّر: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾[14]، وأمّا «القيام بالقسط» الّذي جاء في الآية الكريمة: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْط﴾[15]، فهو هدف متوسّط وليس هدفاً نهائيّاً. والنور الّذي هو الهدف النهائيّ للرسالة في بدايته هو نور للهداية التشريعيّة ثمّ يتحوّل الىٰ نور للهداية التكوينيّة.
 
آية الله الشيخ جوادي آملي


[1] . هناك بحث مفصّل عن الهداية التكوينيّة والتشريعيّة ذكر في كتاب (الهداية في القرآن)، للمؤلّف، وهو باللغة الفارسيّة.
[2] . المفسّرون الّذين فسّروا الهداية في هذه الآية الكريمة بمعنىٰ (الاستمرار في سلوك الصراط المستقيم) أو (ثبات القدم في الطريق) قد اعتبروها هداية تكوينيّة.
[3] . نهج البلاغة، الخطبة 16، المقطع 7.
[4] . سورة الاعراف، الآية 143.
[5] . البحار، ج87، ص175.
[6] . نفس المصدر، ج99، ص267.
[7] . سورة فصّلت، الآية 17.
[8] . سورة الحجّ، الآية 46.
[9] . سورة فصّلت، الآية 17.
[10] . سورة النساء، الآية 56.
[11] . سورة الانعام، الآية 122.
[12] . سورة الشورىٰ، الآية 52.
[13] . سورة التحريم، الآية 8.
[14] . سورة ابراهيم، الآية 1.
[15] . سورة الحديد، الآية 25.

 
2020-07-21