يتم التحميل...

عاشوراء في اللوحة الزينبية

إضاءات إسلامية

عاشوراء في اللوحة الزينبية

عدد الزوار: 8



في قصر الكوفة بعد ملحمة كربلاء، وبعدما أُدخلت السيدة زينب بنت أمير المؤمنين (عليهما السلام) مع سائر السبايا، سألها عبيد الله بن زياد: كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتك؟ فأجابت، وهي تستحضر كل مأساة كربلاء: "ما رأيت إلا جميلاً".

إنَّ ما رأته السيدة زينب (عليها السلام) هو قتل الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه، وأهل بيته الذين منهم بعض ولدها.

إن ما رأته السيدة زينب (عليها السلام) هو الرؤوس المقطوعة، والصدور المرضوضة، والنساء السبايا. فما هي خلفيَّة وصفها لذلك كلِّه بأنه ليس إلا الجمال؟

إنَّ هذا يدعونا إلى دراسة النظرة الإنسانية الصحيحة إلى الأشياء، والتي على أساسها نحدِّد جمالها أو قبحها.

للإجابة الدقيقة أعرض أسئلة:
1- هل الخطُّ المستقيم أجمل أم الخط الأعوج؟

قد يجيب البعض: من المؤكّد أنَّ الخط المستقيم هو أجمل.

2- هل قطع يد الإنسان قبيح أم حسن؟
قد يجيب البعض: من المؤكّد أن قطع اليد أمر قبيح.

3- هل إشارات المرور على الطرقات حسنة أم قبيحة؟
قد يبدي البعض انزعاجه منها حينما يتذكّر أحد أعزائه الذي توفِّي نتيجة ازدحام السير بسبب الإشارة الحمراء.

والإنصاف أنَّ كل هذه الإجابات لا تنطلق من مبدأ سليم، وبالتالي لا يصحُّ أن نحكم عليها بالصواب؛ لأن كلاًّ منها نظر إلى الشيء بنفسه ثم حكم عليه بالجمال أو القبح.

والصحيح أنَّ عليه أن ينظر إليه في لوحته الكاملة، ومشهده التام، ثم بعد ذلك يحكم عليه. فالخطّ المستقيم ليس بنفسه جميلاً ولا قبيحاً، بل الذي يحدِّد جماله أو قبحه هو اللوحة التي يوجد فيها، فلو كان هذا الخطُّ هو حاجبٌ فوق عين الإنسان، فهل جماله باستقامته أو باعوجاجه؟ بالتأكيد أنَّ اعوجاجه هو الذي يعطيه الجمال الممدوح، ومن هنا قيل:
أيها الحاجب المعوج، لو كنت جالساً لكنت أعوج.

وقطع اليد ليس دائماً يوصف بالقبح، فلو أنَّ إنساناً لسعته أفعى في يده، وتوقَّفت حياته على قطعها، فإن أمَّه تلحُّ على الطبيب أن يقطعها؟ لأنّ بقاء اليد لم يعد بنظرها حسن، بل قطعها هو كذلك.

مع أنَّ قطع اليد فيه ما فيه من السلبيَّات، إلا أن الحكم بالحسن لا يكون على أساس أنَّ الشيء كُلّه إيجابي، بل الحكم يتبع النتيجة الإيجابية الأفضل بعد تزاحم الإيجابيات والسلبيات في لوحة وجود الشيء.

وهذه الخلفيّة هي التي تشكل المبدأ الصحيح للحكم على إشارات المرور، فطالما أن الإيجابيات هي الغالبة، فإن النظرة إليها تكون نظرة الحسن والجمال.

إن من أخطاء الكثيرين في حكمهم على الأشياء أنهم ينظرون إليها بنفسها، لا إليها ضمن لوحتها، فيخطئون بالنظرة، كحال الناظر إلى نقطة سوداء ضيّق نظرته في دائرتها فقط، فأصبح لا يرى إلا سواداً، فيحكم بقبح المنظر، في حين أنَّه لو وسّع نظرته، وشاهدها في لوحة وجودها، فلعله يرى "حسونة" على وجهٍ مليح تزيده جمالاً.

القرآن وتصويب النظرة
إنَّ هذا المبدأ هو من دروس الحوار الذي جرى بين الله تعالى وملائكته حينما أخبرهم عن مشروع الإنسان: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَـؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ﴾( ) .

فالملائكة حينما سألت - بصورة الاعتراض- انطلقت من علم لديها بمستقبل أسود للإنسان، فيه سفك للدماء، وإفساد في الأرض.
ومن المؤكَّد أنَّ معلومات الملائكة كانت صحيحة، والتاريخ والحاضر خير شاهدين على ذلك، لذا لم يقل الله للملائكة: إنّ الإنسان لن يفسد في الأرض، ولن يسفك الدماء، بل أخبرها بأنَّ المشكلة فيها هي ضيق النظرة، لأنَّها اطلعت على جزءٍ من لوحة الإنسانية، وهو الجزء الأسود السلبي، ولم تطَّلع على تمام اللوحة. من هنا قال لها: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ﴾( )، ولأجل اطلاعها على الجزء الآخر من تلك اللوحة علَّم آدم الأسماء كُلَّها ثم عرضهم على الملائكة، ليعرِّفهم أنَّ نظرتهم لم تنطلق من مبدأ صحيح، لكونها لم تشمل تمام اللوحة.

البلاء بالمنظار الصحيح
إنطلاقاً من هذا المبدأ في تقييم صحة النظرة إلى الأشياء نطلَّ على البلاء لنفهم من خلال ذلك سرَّ النظرة الزينبية.
والبلاء عنوان لأمثلة عديدة كالفقر، والمرض، وموت العزيز، وفقدان الوظيفة، وحادث السير، والزلازل، والفيضانات، والبراكين وغيرها فما هي النظرة الصحيحة إلى مثل هذه الأمور؟
من الواضح - بناءً على ما تقدَّم- أنَّ من الخطأ التسرُّع والحكم بقبح هذه الأمور، بل لا بدَّ من دراسة الإيجابيات والسلبيات جميعاً لتنجلي من خلال ذلك كل اللوحة، ثم نحكم عليها.
أما السلبيّات في الأمور السابقة فواضحة لا تحتاج إلى تفصيل، فمن يسمع بالفقر والموت، المرض، يستحضر سلبياتها مع استحضار مفاهيمها.

لذا أركِّز الكلام على إيجابيَّات تلك البلاءات التي منها:
1- إنَّ البلاء يساهم بشكل كبير في بناء الشخصية القويَّة للإنسان.
وهذا ما يظهر جلياً من خلال دراسة الأشخاص المتفوِّقين بين البشر الذين ساهمت معاناتهم والمصاعب التي واجهوها في حياتهم في صناعة شخصياتهم الفذّة.
والإمام علي (عليه السلام) يشير إلى هذه الحقيقة في قوله "ألا وإنَّ الشجرة البرِّيَّة أصلبُ عوداً، والروائع الخضرة أرقُّ جلوداً"

فالعالم الناجح لا يصبح كذلك - عادة- إلا بعد دراسة مضنية، والرياضي المتألِّق لا يصبح كذلك - عادة - إلا بعد تدريب قاس. حالهما كحال الألماس الذي يتكون من كربون مرَّ بضغوطات عالية.

2- إنَّ البلاء يساعد في تصويب مسار الإنسان في متفرقات حياته، فموت العزيز قد توقظ من يسير في سكرة الحياة دون التفات إلى سلبياتها. وقد ألفت القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في أكثر من آية.
قال تعالى: ﴿وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ﴾( ).
وقال تعالى: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ﴾( ) .

3- إن البلاء يعقبه تعويض أخروي يريح المعتقد به، فقد ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إنَّ في الجنَّة شجرة يقال لها شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يُرفع لهم ديوان، ولا ينصب لهم ميزان، يصبُّ عليهم الأجر صبّاً"( ) .

وكتطبيق لذلك التعويض الإلهي الكبير أُعطي هذه الأمثلة التي تعرّضت لها الروايات:
أ- سقوط الجنين
- عن النبي (صلى الله عليه وآله): "إني مكاثر بكم الأمم، حتى إنّ السقط ليظل محبنطئاً على باب الجنّة، فيقال له: أدخل الجنّة، فيقول: أنا وأبواي، فيقال: أنت وأبواك"( ).

ب- موت الولد
ورد أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه داود (عليه السلام) حينما مات ولده وقد حزن عليه: "ما يعدل هذا الولد عندك؟ قال (عليه السلام): كان يا رب يعدل عندي ملء الأرض ذهباً"، فأوحى الله تعالى إليه: فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثواباً"( ) .

وورد أنّ النبي (صلى الله عليه وآله) قال لصاحبه ابن مظعون وقد مات ولده واشتد حزنه عليه: "يا ابن مظعون، إن للجنة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب، أفما يسرُّك أن لا تأتي باباً إلا وجدت ابنك إلى جنبه، آخذاً بحجزتك يستشفع لك إلى ربك، حتى يشفّعه الله تعالى؟( ).

وورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): "من قدم من صلبه ولداً لم يبلغ الحنث كان أفضل من أن يخلف من بعده مائة كلُّهم يجاهدون في سبيل الله عزّ وجل، لا تسكن روعتهم إلى يوم القيامة"( ) .

ج- مرض الجسم
عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): "إن الرجل ليكون له الدرجة عند الله لا يبلغها بعمله، يُبتلى ببلاء في جسمه فيبلغها بذلك"( ).
إن صاحب البلاءات حينما يتأمل هذه النصوص الدينية سيشعر بمزيج من الألم واللذة كحالة مسافر الذي كان في بلد بعيد، وأراد أن يرجع إلى أهله في لبنان، ورحلته تقتضي أن تحطّ الطائرة في مطار باريس "ترانزيت" لينتظر فيه ثلاث ساعات ثم تقلع بعدها الطائرة.
وكان هذا الرجل قد أبلغ أهله بموعد الطائرة حيث سيكونون في مطار بيروت عند الموعد المحدّد. إلا أن طارئاً حدث في مطار باريس اضطر الراكب أن ينتظر فيه عشر ساعات إضافية، كيف ستكون حالته النفسية؟
لا شكّ أنّ كثيراً من الناس يصيبهم ضيق الصدر والكدر والحزن على ذلك، ولكن لو أنّ هذا المسافر أُبلغَ بشكل يقيني قبل أن يحدث ذلك الطارئ أن كل ساعة سيتأخرها في مطار باريس سيُعطى له تعويض قيمته 50000 يورو، كيف ستكون حالته حينئذٍ؟

لا شكّ أن هذا الإنسان ستتغيّر حالته المعنوية، وهو حينما يفكّر في تأخير كل ساعة ومضاعفاته سيغمره شعور بالرضا على التأخير، بل الفرح، لأن رصيده المالي يزيد 50000 يورو.

ولو أنّ هذا المسافر أُبلغ يقينياً أنّه إذا تعرّض في فترة التأخير إلى ضربة كفّ، فإنّه سيعوَّض عليه 100000 يورو على كل ضربة.
فإذا ضُرب هذا الإنسان، فإنّه سيشعر بالألم، لكنّه حينما يفكّر بزيادة رصيده المالي مئة ألف يورو سيشعر أيضاً باللذة.
بل قد يشعر شعور الأولياء الذين يفهمون البلاء رسالة حبٍّ من الله تعالى، كحال ذلك العالم الذي لم يُرزق بولد، فأخذ يدعو الله تعالى طويلاً حتى رزقه بولد ملأ حياته سعادة وسروراً، وتعلّق قلبه به تعلّقاً كبيراً، وذات يوم – حينما كان يعظ الناس- جاءه خبر وفاة ولده الوحيد، فأكمل موعظته بدون أن يبدو عليه الحزن المتوقّع، وبعدها طلب من الناس أن يشاركوه في تشييع ولده.
سأله أحدهم: إني أعلم أنّك تعشق ولدك، فلمَ لم يبدُ عليك آثار الحزن عليه؟
فأجابه: "حينما جاءني خبر وفاته، خطر في قلبي أنّ الله تعالى علم أن قلبي تعلّق بحبّ غيره، فتوفّاه تعالى حتى لا يسكن قلبي إلا حبُّه، فرضيت".
إنّ ما تقدّم يوضح كلمة بعض العرفاء بأن الفرق بين العذاب والعذب ألف لا تُقرأ.

إن هذه النظرة إلى البلاء تفهمنا:
1- لماذا نسب الله تعالى البلاء لنفسه في قوله تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾( ).
وقوله تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ﴾( ).
وقوله تعالى: ﴿وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾( ).

2- سرّ حديث الإمام الصادق (عليه السلام): " إن أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأوصياء، ثم الأماثل فالأماثل"( ) .
وحديث النبي (صلى الله عليه وآله): "ما أوذي نبي مثل ما أوذيت"( ).

3- معنى ما أدّبنا الله تعالى به حينما نصاب بابتلاء بأن نقول: "الحمد لله الذي لا يحمد، على مكروه سواه".
فالحمد هو ثناء وشكر، ثناء على لوحة المال وشكر على عطاء الله تعالى بسبب بلائه.

حينما يستحضر الإنسان آثار البلاء ونتائجه الإيجابية سوف يفهم سرَّ نظرة السيدة زينب (عليها السلام) إلى ملحمة عاشوراء. فهي وإن كانت قد استحضرت كل المأساة فيها، إلا أنها استحضرت أيضاً أن هذه النهضة أبقت الإسلام حيَّاً، وإن هذه النهضة منعت قافلة الإنسانية من الانحراف في مسيرتها، وإن هذه النهضة صنعت عشاق شهداء لا يسبقهم أحد قبلهم ولا يلحق بهم أحد بعدهم لذلك قالت: "ما رأيت إلا جميلاً".

سماحة الشيخ د. أكرم بركات

( ) سورة البقرة
( ) سورة البقرة: 30
( ) سورة الشورى: 27
( ) سورة فصلت: 51
( ) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 79 ص 137
( ) مسكن الفؤاد - الشهيد الثاني - ص 5
( ) رواه الشيخ ورام في تنبيه الخواطر 1: 287 ، والسيوطي في الدر المنثور 5: 306 باختلاف في الفاظه
( ) مسكن الفؤاد - الشهيد الثاني - ص 20
( ) مستدرك الوسائل - ميرزا حسين النوري الطبرسي - ج 2 ص 392
( ) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 78 ص 174
( ) البقرة: 155
( ) الأنبياء: 35
( ) المؤمنون: 30
( ) وسائل الشيعة (الإسلامية) - الحر العاملي - ج 2 ص 907
( ) بحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج 39 ص 56

2020-10-07