يتم التحميل...

البيئة

كف الأذى

يقول الله تعالى في محكم كتابه: وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيه ِإلّابِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ...

عدد الزوار: 113

تمهيد
يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيه ِإلّابِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ* وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ1.

لقة امتنّ الله تعالى على العباد في هذه الآيات ببعض ما أنعمه عليهم، وهو شيء قليل جدًّا لا يعدّ أمام نعمه التي لا تحصى ﴿وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ2.

لكنّ الآية الكريمة أشارت لنوع خاصّ، من النعم، التي خصّها الله تعالى لكي يستفيد منها الإنسان، فعدّ سبحانه وتعالى في أوّل الآية الحيوان الذي يستفاد من لحمه ووبره، ومن ظهره لقطع المسافات، وبعد ذلك ذكر سبحانه الزرع والشجر على أصنافه، أي ما يؤكل منه في الطعام، أو يتفكّه به من الفاكهة.

كلّ هذا لأجل هذا الإنسان، ولكي يكتفي منها بما يقيم أوده، ويهدّئ من قلق نفسه التوّاقة للكمال دائماً.

لكنّ السؤال الذي ينبغي أن يطرح في المقام هو: ماذا فعل الإنسان في مقابل هذه النعم؟

وهل أدّى شكرها بالشكل الكامل؟
وهل للشرع المقدّس توجيهات تختصّ بهذه النعم؟
هذه الأسئلة وغيرها سنشير إليها باختصار، سائلين الله تعالى أن يوفّقنا لأداء حقّ شكره.

الإنسان والبيئة
أنيط بالإنسان خلافة الأرض ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ3. ومعنى الاستخلاف هو أنّ الإنسان وصيّ على هذه البيئة (الأرض)، ومستخلف على إدارتها وإعمارها وأمين عليها، ومقتضى هذه الأمانة أن يتصرّف في ما استخلف فيه تصرّف الأمين عليها، من حسن استغلالها وصيانتها والمحافظة عليها.

ولكنّ الإنسان لم يحسن حفظ الأمانة التي استخلف عليها، وفرّط بها عبر التاريخ، من خلال إفساده فيها، قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إلّا قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ4.

وقال تعالى في آية أخرى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ5.

فأحرق الإنسان الغابات، وأرسل قمامته إلى المياه التي جعلها الله تعالى لكلّ الكائنات، وسلّط المياه الفاسدة إلى الينابيع العذبة، واستخدم النفط الذي هو من الكنوز، في الصناعات التي تلوّث الهواء الذي يتنفّس منه، إلى ما لا يعدّ ويحصى من أسباب التلوّث، في مقابل ما لا يحصى من النعم!

وبناءً على هذه العلاقة الجدليّة بين الإنسان والطبيعة أو البيئة، كان لا بدّ إذاً من اشتمال هذا الدين على أحكام للبيئة، لأنّها من الأمور التي تشكّل طرفاً في العلاقات مع الإنسان محور التشريع.

الدين والبيئة

دعا الدين الإسلاميّ الحنيف إلى نبذ الإسراف ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ6، وقال تعالى في مورد آخر: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ7.

ودعا الإسلام أيضاً إلى سلوك الطريق الوسطى، فلا إفراط ولا تفريط، وهو مبدأ عامّ لا يختصّ في جانب معيّن، وإنّما نهى الإسلام عن الإسراف لما فيه من أضرار كثيرة، وهو كلّ سلوك يتعدّى الحدود المعقولة والمقبولة، وبخصوص موضوع البيئة، فإنّه يتمثّل في الإستخدام المفرط لموارد البيئة، بما يشكّل خطراً وضرراً على البيئة ومواردها.

والحقّ أنّ الإسراف في استخدام موارد البيئة قد يهدّد البشرية بأخطار كثيرة؛ فمثلاً الإسراف في قطع الأشجار والنباتات، أدّى إلى مثل جرف التربة والفيضانات العنيفة، وانتشار التصحّر في المناطق التي كانت مغطّاة بنضرة الأشجار الخضراء، ممّا أدّى إلى الإختلال في دورة الأوكسجين وثاني أوكسيد الكربون وغير ذلك. والقرآن الكريم دعا من خلال هذه الآيات المباركة إلى الاعتدال والوسطيّة، أي الإستخدام الراشد والإستثمار دون استنزاف، لأنّ الله جعل لكلّ شي‏ءٍ قدراً، ومنها البيئة لأنّها محدودة في قدراتها وثرواتها، والموازنة بين القدرة الإنتاجيّة للبيئة وبين النموّ السكانيّ، والموازنة بين الأعمال اللازمة لإشباع احتياجاته المتسارعة، وبين المحافظة على البيئة سليمة خالية من العطب والخلل، فلا تعني حماية البيئة أن نترك كنوز الأرض في مواقعها، ولا التحريم المطلق للاستفادة من ثروات الأرض الحيوانيّة والنباتيّة؛

﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ8، بل تعني الاستفادة دون إسراف، لأنّ البيئة ليست ملكاً لجيلٍ بعينه يتصرّف بها كيف يشاء، بدون مراعاة لمن سيأتي من بعده، بل هي ميراث البشريّة جمعاء.

كيف نحافظ على البيئة؟
سنشير إلى بعضٍ من التعاليم التي أرشدنا الدين الحنيف إليها، لكي نحافظ على ما متّعنا الله تعالى به من النعم، ومن هذه التعاليم:

1- الحفاظ على الثروة النباتيّة

فقد حثّ الإسلام على زراعة الشجر وبارك الزارع، ففي الرواية روي عن أبي عبد اللَّه عليه السلام أنّه قال لرجل سأله فقال له: جعلت فداك أسمع قوماً يقولون إنّ الزراعة مكروهة، فقال: "إزرعوا واغرسوا، فلا والله ما عمل الناس عملاً أجلّ ولا أطيب منه"9.

وفي رواية أخرى عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "لمّا هبط بآدم إلى الأرض، احتاج إلى الطعام والشراب، فشكا ذلك إلى جبرائيل عليه السلام فقال له جبرائيل: يا آدم كن حرَّاثاً"10.

وروي أنّ أبا عبد الله عليه السلام قال: "الكيمياء الأكبر الزراعة"11.

وبارك أئمّة أهل البيت عليهم السلام المزارعين وذكروا فضلهم، ففي الرواية: "سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: الزارعون كنوز الأنام، يزرعون طيّباً أخرجه الله عزّ وجلّ، وهم يوم القيامة أحسن الناس مقاماً، وأقربهم منزلة، يُدعون المباركين"12.

وكما حثّ الإسلام على الزراعة، نهى عن قطع الأشجار، بل كانت الأوامر الصريحة تصدر من النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لقوّاده وجيشه، تنهاهم عن قطع الأشجار أو إتلافها، وضرورة المحافظة عليها "ولا تقطعوا شجراً إلّا أن تضطرّوا إليها"13، ونتيجة إغفال الإنسان لهذه التوجيهات، وإفراطه في بناء مدنيّته على حساب الموجودات الطبيعيّة لهذه العناصر الضروريّة للحياة، ازداد التلوّث.

2- الحفاظ على الثروة الحيوانيّة

وعندنا من النصوص والأحكام ما يكفي لإلقاء الضوء على مدى العناية بهذه الثروة، كتحريم صيد اللهو الذي يشكّل هدراً وإتلافاً للثروة الحيوانيّة من دون مسوّغ، وقد سئل الإمام الصادق عليه السلام عن الرجل يخرج إلى الصيد مسيرة يوم أو يومين، أيقصّر في صلاته أم يتمّ؟ فقال: "إن خرج لقوته وقوت عياله فليفطر وليقصّر، وإن خرج لطلب الفضول فلا ولا كرامة"14.

بل نهت الرواية حتّى عن قتل العصفور بدون حاجة لأكله, فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "ما من دابّة - طائر ولا غيره - تُقتل بغير الحقّ، إلّا ستخاصمه يوم القيامة"15.

3- الحفاظ على الثروة المائيّة
يقول سبحانه وتعالى: ﴿أَنَّا صببنا الماء صبّاً * ثم شققنا الأرض شقاً *فأنبتنا فيها حبّاً * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وزيتوناً ونخلاً * وحدائق غلباً * وفاكهة وأبّاً * متاعاً لكم ولأنعامكم16.

فالعلاقة واضحة بين الماء وإنبات النبات، ولا شكّ أن قلّة الماء تؤثّر سلباً على نموّ النبات، وبالتالي على حياة الحيوان، فالواجب يقتضي الحفاظ على هذا الماء وعدم الإسراف في استخدامه، والمحافظة أيضاً على نظافته ونقائه من كلّ أنواع التلوّث، فمنع إلقاء الأقذار الإنسانيّة قريباً من مجاري المياه، كما روي عن أبي عبد الله عليه السلام، وأبو الحسن موسى عليه السلام قائم وهو غلام، فقال له أبو حنيفة: يا غلام أين يضع الغريب ببلدكم؟

فقال: "إجتنب أفنية المساجد، وشطوط الأنهار، ومساقط الثمار، ومنازل النزّال، ولا تستقبل القبلة بغائط ولا بول، وارفع ثوبك، وضع حيث شئت"17.

وفي رواية أخرى عن أبي جعفر الباقر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السلام قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُتغوّط على شفير بئر ماء يُستعذب منها، أو نهر يُستعذب، أو تحت شجرة فيها ثمرتها"18.

خاتمة
إنّ الإنسان وأعماله هو التهديد الأكبر للبيئة، فلو كففنا أذى الإنسان عنها لكانت بألف خير، فالبيئة في نفسها لا تتسبّب بالأذى للإنسان، ليقدم بدوره على مجازاتها بهذه الطريقة.

فلو اتّبعنا إرشادات الإسلام، والتي أوصت بالحفاظ على البيئة، لوصلنا لغاية المنى في هذا المضمار، ولتفوّقنا على كلّ أدعياء الحضارة والتقدّم.

إنّ وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتي هي أساس بقاء واستمرار المجتمعات الدينيّة، لها الدور الأكبر في التوعية والحفاظ على النعمة الإلهيّة، لهذا علينا التأكيد دوماً على هذه الفريضة وعدم تركها، سيّما في هذه الموراد المنسيّة في غالب الأحيان.

* كف الأذى. تأليف مركز نون للتأليف والترجمة. نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى شباط 2010م- 1431هـ. ص: 85-93.


1- النحل:5 - 11.
2- إبراهيم: 34.
3- البقرة: 30.
4- هود: 116.
5- الروم: 41.
6- الأنعام: 141
7- الأعراف: 31
8- الأعراف: 32.
9- الكافي- الكليني - ج 5 ص260.
10- م. ن. ج 5 ص260.
11- م. ن. ج 5 ص261.
12- م. ن. ج 5 ص261.
13- وسائل الشيعة - الحر العاملي - ج 15 ص 58.
14- م. ن. -ج 8 ص 480.
15- ميزان الحكمة - محمد الريشهري - الحديث 4536.
16- عبس: 25-32.
17- وسائل الشيعة (آل البيت) - الحر العاملي - ج 1 ص 325.
18- م. ن. - ج 1 ص 325.

2012-05-08