يتم التحميل...

تحصين الطفل من الشعور بالنقص والذلة

تربية الأبناء

الإفراط في التواضع، والركون الى الذلة والتملق، مظهر آخر من ردود الفعل التي تحصل عند المصابين بعقدة الحقارة. وهو مذموم ومستهجن في نظر العلم والدين، وسنتحدث في هذا المقال حول هذا الموضوع النفسي الاجتماعي المهم آملين أن يقع موقع الفائدة لدى الجميع.

عدد الزوار: 14

قال الله تعالى في كتابه الحكيم: ﴿... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ(المنافقون:8).

الإفراط في التواضع، والركون الى الذلة والتملق، مظهر آخر من ردود الفعل التي تحصل عند المصابين بعقدة الحقارة. وهو مذموم ومستهجن في نظر العلم والدين، وسنتحدث في هذا المقال حول هذا الموضوع النفسي الاجتماعي المهم آملين أن يقع موقع الفائدة لدى الجميع.

التواضع

وقبل أن ندخل الى صلب الموضوع نمهد له بذكر نكتة مهمة، وهي التواضع من الصفات الحميدة والسجايا المفضلة في نظر الإسلام. يجب على كل مسلم في أسلوب معاشرته مع الآخرين أن لا يحذر من التكبر والإستعلاء فقط، بل عليه أن يكون متواضعاً بالنسبة الى غيره ويحترم شخصيات الاخرين على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم.

لقد وردت أحاديث كثيرة في التواضع وبيان القيمة الاخلاقية الاجتماعية له. لقد كان الأئمة عليهم السلام ملتزمين بهذه الخصلة الحميدة كما كانوا يؤكدون على المسلمين الإلتزام بها.

وعلى سبيل المثال نستعرض حديثين من ذلك:

1- "رُوي عن موسى بن جعفر عليه السلام أنّه مرّ برجل من أهل السواد دميم المنظر، فسلّم عليه ونزل عنده وحادثه طويلاً، ثم عرض عليه نفسه في القيام بحاجةٍ عرضت له. فقيل له: يا بن رسول الله أتنزل إلى هذا ثم تسأله عن حوائجه وهو اليك أحوج ؟ فقال عليه السلام:

عبد من عبيد الله، وأخ في كتاب الله وجار في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم، وأفضلُ الأديان الإسلام" (تحف العقول ص 413).

2- "عن رجل من أهل بلخ، قال: كنتُ مع الرضا عليه السلام في سفره الى خراسان، فدعا يوما بمائدة له، فجمع عليها مواليه من السودان وغيرهم: فقلت: جعلت فداك، لو عزلت لهؤلاء مائدة ! ! فقال: مه إن الرب تبارك وتعالى واحد، والأم واحدة، والأب واحد، والجزاء بالأعمال"1.

وهناك أحاديث كثيرة مشابهة لهذين الحديثين تحكي عن تواضع الرسول الأعظم والأئمة الطاهرين عليهم الصلاة والسلام تجاه جميع الطبقات.

نكتتان مهمتان

يلاحظ في التواضع الممدوح نكتتان مهمتان:

الأولى
:
أن لا يزيد التواضع عن الحد المعقول ولا يبلغ حد الإفراط لأن ذلك يعني التملق والتزلف وهما من الصفات الذميمة.

الثانية
:
أن يكون الدافع للتواضع هو الشرف والفضيلة واحترام الآخرين لا ضعف النفس والذلة. وبعبارة أوضح فإن المتواضع هو الشخص الذي يطمئن الى شخصيته، ولا يشعر في نفسه بحقارة أو ذلة. إنما يقوم بواجبه بدافع من الشعور الإنساني وعلو النفس.

يقول الإمام أمير المؤمنين في بيان صفات الرجال المؤمنين: "سهلُ الخليقة، لين العريكة، نفسه أصلب من الصّلد، وهو أذلّ من العبد"2.

إن المقصود من صلابة النفس هو بيان الطمأنينة والإستقرار الذي يمتاز به هؤلاء، وأن القيمة الخلقية للتواضع ترتبط بهذه الحالة الروحية.

التواضع المذموم

إن التواضع الذي يستند إلى الحقارة والذلة، والذي ينبع من الخوف أو الطمع، ليس أنه لا يؤدي إلى التكامل النفسي والصفاء الروحي فحسب بل إنه يتسبب في نشوئه على الحقارة والذلة وتعوّده على الخسّة والهوان.

لقد اهتم الإسلام بالحفاظ على شرف المسلمين وعزتهم، وجعل ذلك في سياق الحديث عن عزة الله ورسوله. وبذلك حذرهم من الإستسلام للذل والهوان حيث قال: (... وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ).

لقد وردت روايات كثيرة تؤكد على هذا الأمر، نذكر قسما منها:

1- قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "لا يحل لمؤمن أن يُذلّ نفسه"3.

2- وعنه صلّى الله عليه وآله: "ليس للمؤمن أن يُذل نفسه"4.

3- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله فوض الى المؤمن كلّ شيء إلاّ إذلال نفسه"5.

4- وعن الإمام العسكري عليه السلام: "ما أقبح بالمؤمن أن تكون له رغبة تذلّه"6.

5- وعن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله فوّض إلى المؤمن أموره كلّها، ولم يفوّض إليه أن يُذل نفسه العزيزة7.

أساس الحكومة الإسلامية

تستند الحكومة الإسلامية على أساس العزة والشرف. ويتمتع جميع الأفراد في ظلها بالإحترام والتقدير، فإن كل عمل يؤدي الى ابسط تحقير أو إهانة للمسلم يعتبر ممنوعاً. لا مجال للتملق والذلة والحقارة في ظل الحكومة الإسلامية، لأن الإسلام يهتم بتربية الأفراد الأحرار... والحرية وعلو الهمة لا يستقيمان مع الذلة والهوان.

إن موضوع الحفاظ على الشرف والعزة مهم في نظر الشريعة إلى درجة أن الفقهاء اشترطوا ذلك في كثير من الأحكام. فمثلا يقول العلامة السيد اليزدي عند تعرضه للموارد التي يجوز فيها التيمم بإعتبار فقدان الماء: "لو وهبه غيره بلا منّة وذلّة وجب القبول"8.

يتضح من هذه الفتوى أن الحصول على الماء لو كان متوقفاً على هبة الغير له، وكان الواهب لا يمنحه الماء إلاّ بمنة أو ذلة فإن الإسلام لا يرضى بالوضوء حينذاك، بل يتبدل التكليف الى التيمم.

لقد كان الأئمة عليهم السلام، بالإضافة الى امتناعهم عن كل عمل يؤدي الى الذلة والهوان، يمنعون المسلمين عن الاستسلام لذلك والإفراط في التواضع. وهناك شواهد كثيرة على ذلك.

1- "عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: أن رسول ا‏لله صلّى الله عليه وآله خرج على نفر من أصحابه. فقالوا: مرحباً بسيّدنا ومولانا. فغضب رسول ا‏لله غضباً شديداً، ثم قال: لا تقولوا هكذا، ولكن قولوا: مرحباً بنبينا ورسول ربنا. قولوا السداد من القول ولا تغلُوا في القول فتمرقوا"9.

2- وفي حديث آخر نجد أن الامام أمير المؤمنين عليه السلام ينهى عن مشي البعض معه وهو راكب... "ركب علي عليه السلام يوماً فمشى معه قوم، فقال عليه السلام لهم: أما علمتم أن مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب ومذلة للماشي ؟ ! إنصرفوا"10.

3- مرّ أمير المؤمنين عليه السلام في طريقه الى الشام بمدينة (الأنبار). فاستقبله جمع غفير من الملاكين والشخصيات البارزة على مراكبهم، وعندما اقترب الإمام منهم نزلوا عن مراكبهم وأخذوا يسيرون بصورة مجتمعة في ركابه. لقد بدا هذا الأمر منهم غريباً في نظر الإمام عليه السلام فسألهم: لماذا نزلتم عن مراكبكم وتسابقتم في السير معي ؟ قالوا: هذا دأبنا تجاه أمرائنا وزعمائنا. فأخذ الإمام عليه السلام ينصحهم بترك ذلك مبيناً لهم أنه لا يجدي نفعاً للأمراء والزعماء كما أنه يؤدي الى الاشعار بالذلة والحقارة لكم. ثم قال:"ما أخسر المشقة وراءها العقاب، وأربح الدّعة معها الأمان من النار"11.

4- قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "من كانت له إليّ حاجةٌ فليرفعها إليّ في كتاب لأصون وجهه عن المسألة"12.

يستفاد من الأحاديث المتقدمة مدى اهتمام الإسلام بالحفاظ على شرف المسلمين وعزهم. إنه لا يسمح لأحد بإتباع السلوك الذي يؤدي إلى الإحتقار والذلة. على الشعب والحكومة معاً السعي للحفاظ على العزة الفردية والوطنية، والحذر عن كل ما من شأنه الحط من كرامة الحكومة الإسلامية أو النيل من شخصية الأفراد فيها.

غريزة حب الذات

ان حب الذات من الغرائز الطبيعية عند الإنسان. هذه الغريزة تدفعه إلى أن يسعى في سبيل الحفاظ على شخصيته، وأن يصون روحه وجسمه من أي إعتداء أو تعذيب.

كل فرد يحب بفطرته أن يبقى حياً، فعندما يعطش أو يجوع أو يمرض ويرى حياته مهددة بالخطر، فإن غريزة حبه لذاته تدفعه للسعي وراء الماء والخبز والطبيب والعلاج.

كذلك يميل الإنسان بفطرته إلى العزّ والشرف، ويسعى سعيا حثيثا في سبيل الحفاظ على ذلك، فعندما يجد شرفه معرّضاً للخطر، فإنه يحاول بكل ما يملك من طاقة دفع كل ما يسيء إلى سمعته.

المشاعر المتناقضة

لغريزة حب الذات مظاهر مختلفة من الناحيتين: الروحية والجسمية، فعندما لا يوجد تعارض أو تزاحم بين تلك المظاهر فإن كلاً منها يتلقى استجابة ملائمة. ولكن الطامة الكبرى تقع عندما تظهر هذه الغريزة في مظاهر متعارضة فيما بينها، وتجعل الإنسان تحت كابوس المشاعر المتناقضة. في مثل هذه الحالة ينحرف بعض الأفراد عن الطريق الصحيح والمعقول ويقدمون على أعمال إجرامية عظيمة.

إن كل فرد يرغب بدافع من حبه لذاته أن يكون كاملاً من جميع الجهات منزهاً عن كل نقص أو ضعف. إن الأشخاص الذين يشعرون بالحقارة والصغار من بعض هذه الجوانب يعيشون في قلق وإضطراب دائمين، ويشكون من ضغط روحي باستمرار. إن الطريق المعقول لهؤلاء في تدارك حقارتهم هو أن يوجهوا قابلياتهم في مجارٍ مناسبة، ويبرهنوا على جدارتهم وكفاءتهم عن طريق إظهار مواهبهم في المجالات التي يتقنونها وبذلك يستطيعون الحصول على شخصية مستقيمة في المجتمع ويتناسون ضعفهم الداخلي. لكن بعض المصابين بالحقارة ينحرفون عن الطريق المعقول بسبب من اليأس أو الكسل وغير ذلك. ولإخفاء ما هم عليه من الضعف، وبغية تدارك النقص يقدمون على الإنتحار المعنوي، فيحطمون شخصياتهم ويتخلّون عن عزتهم واستقلاهم... إنهم يستسلمون للذل والهوان بالحركات التزلّفية التي يغلب عليها طابع التصنع في التواضع، وهذا ما يؤدي إلى إذكاء نار المشاعر المتناقضة في ضمائرهم.

عوامل التناقض

توجد في المجتمع طوائف عديدة وقعت في ورطة المشاعر المتناقضة، ودعاهم ذلك الى الإفراط في التواضع بحيث يصل إلى درجة التملق والتنازل عن شرف النفس والكرامة. وسنتحدث في هذه المقال عن العوامل المؤدية الى ذلك.

1- الشعور بالنقص

من العوامل المهمة لإيجاد عقدة الحقارة في ضمير الإنسان، مظاهر التزمت والشدة التي يستعملها بعض الآباء والأمهات تجاه أطفالهم. إن الطفل الذي ينمو في جو مشحون بالخوف والإضطراب، والتوّتر والقلق ولا يحسب له الأبوان حساب الآدميين، والذي لم يذق طعم الرأفة والحنان أبداً... لا بد وأن ينشأ ضعيفاً، حقيراً، يشعر بالحرمان دائماً. إنه لا يجد نفسه كفؤاً لتحمل أعباء الحياة، لأن التجارب أثبتت له ذلك.

هذا الطفل عندما يشب ويترعرع ويصبح عضواً بارزاً في المجتمع، يظل يشعر بالنقص في قبال الآخرين، لأنه مصاب بالقلق والإضطراب، فاقد للاستقلال وقوة الشخصية.

"إن النشاطات الدالة على القلق والإضطراب تشير إلى أن الشخص يشكو من نقص عظيم، ويتصور أنه لكي يتدارك ذلك النقص عليه أن يقوم بجهد أكبر مما يقوم به الآخرون. إن جميع النشاطات اللاغرضية تشير الى هذه الحقارة".

"هذا القلق ينشأ من خوف كامن. والسبب هو أن الشخص يتصور أنه سيندحر في عمله أو منزلته أو أموره المعاشية. ومهما كان السبب فإن ذلك يجعل صاحبه كالفأرة الواقعة في الفخ، حيث تحاول الفرار فقط".

"وليس من الضروري أن يكون هذا الخوف من حادث قريب، بل يكون في الغالب وليد خاطرة سابقة نسيت من صفحة شعور الإنسان. لقد كان الخوف مصاحباً لهذه الخاطرة ولم يطرد من خزانة الفكر تماماً، وفي النتيجة يظهر بصورة الخوف، العصاب، القلق، والإضطراب"13.

"بصورة عامة فإن كل حادثة مؤلمة تقع للطفل سواء في البيت، أو المدرسة، أو المجتمع، تسبب تحطيم شخصيته لأن عواطفه ومشاعره قد قمعت، ولا تستطيع الظهور من دون جهد"14.

إن هؤلاء الأفراد إذا استطاعوا أن يتناسوا خواطرهم المّرة التي مرت عليهم في أيام الطفولة، وتغافلوا عما لا قوه من التزمت والشدة من أبويهم استطاعوا العيش بعزة وكرامة. أما إذا ظلت تلك الخواطر المؤلمة عالقة بأذهانهم فإنهم لا يستطيعون الخلاص من ضغط الحقارة والذلة ولذلك نجدهم يقدمون على أعمال مختلفة، منها الرضوخ للذل والإستسلام للهوان.

إن التواضع في هذه الصورة يفسّر بالخوف من معاملة الناس للفرد نفس المعاملة التي كان يعامله بها أبواه من التحقير والشدة والخشونة.

لكي يتدارك ذلك يتواضع لكل أحد ويتزلّف إلى كلّ من يتصور أنه قادر على الأخذ بيده في متاهات الحياة، ومساعدته في حل مشاكله.

إذن ليس هذا النوع من التواضع فضيلة خلقية، بل يستند إلى الخوف من التحقير. وهو مذموم بلا ريب.

2- الحرمان المادي

إن فقر الأبوين وضعف حالتهما المالية من العوامل التي تسبب الحقارة والخجل للطفل. إن الأفراد الذين نشأوا في ظروف مالية صعبة يشعرون بتخلّف عن ركب الكمال والرقي. هذه الخاطرة لا تمحى من أذهانهم بل تظل عالقة بها مدى العمر. أما الأفراد الذين بلغوا مدارج الكمال والرقي على أثر كفاءتهم وفي ظل الجهود التي بذلوها لذلك فإنهم يتناسون الماضي التعس ويعملون ليومهم... في حين أن الأفراد الذين لم يسلكوا طريق العمل والجد، ويعملون ليومهم... لا يستطيعون نسيان تلك الخواطر المرة بل يظلون يئنون من عوارض الحقارة وضعف النفس. إنهم يحتقرون انفسهم في قبال الأثرياء وهذا يدفعهم إلى أن يخضعوا لهم ويفرطوا في التواضع نحوهم.

"هناك أطفال وُلدوا في أسر فقيرة، وبالرغم من أن بالإمكان أن ينالهم عطف الوالدين وحنانهما وتربيتهما وتعليمهما الصحيحان، فإنهم قد يصابون بالحقارة والخجل الشديد عندما يبلغون ويتذكرون الحالة التي كانوا عليها. هؤلاء يشعرون بالخسة والضعة في مواجهة الأفراد الذين هم فوق مستواهم"15.

لقد نظر الإسلام نظرة سخط إلى الحقراء الذين يحترمون الأثرياء لثروتهم فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "لعن الله من اكرم الغني لغناه"16.

الفقراء المتعففون

لقد كان أكثر أصحاب النبي صلّى الله عليه وآله فقراء في صدر الإسلام. لكن القرآن الكريم تعهد بتربيتهم على عزة النفس وقوة الشخصية، بحيث لم يكونوا يخسرون أنفسهم في قبال التجارب المادية بالرغم مما كانوا عليه من الفقر.

وكشاهد صريح على ما أقول أذكر لكم القصة التالية: فقد روي أن رجلاً موسراً دخل على النبي صلّى الله عليه وآله، ثم دخل رجل فقير وجلس إلى جنبه، فجمع الموسر ملابسه...

كان النبي صلّى الله عليه وآله منتبهاً إلى ذلك، فسأل الموسر: أخشيت من اتصال فقره بك ؟

فقال: كلا.

فقال النبي صلّى الله عليه وآله: أخشيت من انتقال شيء من ثروتك إليه ؟

قال: كلا.

فقا لصلّى الله عليه وآله: أخشيت من تلوّث ملابسك ؟

قال: كلا.

قال صلّى الله عليه وآله: فلماذا جمعت ملابسك ؟

قال: إن الثروة التي تلازمني في كل حين منعتني من رؤية الحق، وحببت إلي عيوبي، ولكي أتدارك هذا السلوك المستهجن، فقد وهبت له نصف ما أملك.

فقال رسول الله للمعسر: أتقبل ؟

قال: لا.

فقال له الرجل: ولَم ؟

قال: أخاف أن يدخلني ما دخلك ! !17.

3- التأخر العلمي

إن الشخص الذي يريد أن يجعل نفسه في عداد العلماء، لكنه معدم من الناحية العلمية يشعر بالحقارة. ولكي يخفى هذا النقص ويتدارك ما عليه من الحقارة يتوسل بطرق مختلفة، فقد يستند إلى أقوال العلماء، وينقل كلمات الآخرين... وقد يتذرع بالتملق والتزلف فيخضع في قبال الآخرين إلى درجة يخجلون معها من التصريح بجهله وانخفاض مستواه العلمي.

إن الطامة الكبرى هي عندما يجلس إنسان جاهل كهذا على كرسي التدريس ويتصدى لتعليم غيره. فلكي يحافظ على شخصيته في قبال تلاميذه ولا يُحتقر من قبلهم، فإنه إما أن يلتزم التكبر والشدة إلى درجة لا يجرأ معها التلاميذ على مصارحته بجهله ونقصه، أو يتواضع الى درجة يتغافلون معها عن عدم جدارته وكفاءته.

إن هذا النوع من التواضع لا يمكن أن يعدّ من الفضائل. بل إنه نوع من الذلة منشأه حقارة الشخص وخوفه من انفضاح أمره.. إنه كان يحاول أن يظهر بمظهر العلماء مع فقدانه للثروة العلمية، وبالرغم من عدم كفاءته فقد أشغل كرسي التدريس، لذلك فقد رضي بهذا الذل.

عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا ينبغي للمؤمن أن يذلّ نفسه. قلت: بما يُذلّ نفسه ؟ قال: يدخل في ما يتعذّر منه"18.

وعنه عليه السلام: "لا ينبغي للمؤمن أن يذّل نفسه. قيل له: وكيف يُذلّ نفسه ؟ قال: يتعرّض لما لا يطيق"19.

وعن الإمام الباقر عليه السلام: "بئس العبدُ عبدٌ له رغبةٌ تذلّه"20.

إن شخصاً كهذا لو يعرف قيمته الواقعية ويقف عندها، لا يساوم عزته وشرفه ولا يستسلم للذل والهوان بالتملق والتواضع الشديد.

4- الإجرام

الإجرام عامل آخر من عوامل الحقارة والضعة. إن الشخص الخارج على القانون يشكو من ضغط الوجدان وتأنيب الضمير دوماً ويرى نفسه حقيراً. إنه يدفن جرائمه في ضميره المستتر ويتناسى الصور المخجلة لأعماله البشعة، لكن الوجدان الاخلاقي لا يتركه لوحده بل يظل يكيل له اللوم والتأنيب بإستمرار...

إن الحقارة التي تصيب الفرد على أثر الإجرام تفقده شخصيته، ومهما كان قوياً في إرادته فإنه يضعف وينهار... ثم يسعى لإخفاء ضعفه النفسي والتظاهر بالقوة والثبات، في حين أن فشله وتأثره الباطني لا بد وأن يظهر من خلال افعاله وأقواله.

"إننا نخفي خواطرنا المؤلمة والمخجلة في ضمائرنا حتى نكون بمنجى عن تعذيبها، ولكنها تملك نفوذاً تاما في أفكارنا وسلوكنا على الرغم من جميع محاولاتنا، إننا نجهل ذلك وقد لا نعي شيئاً عن علل سلوكنا، لذلك فإننا نتندم من عملنا ونتحير: لماذا صدر العمل الفلاني منا، أو لماذا جرت الكلمة الكذائية على لساننا. إن الخواطر المدفونة لا تموت ولا تفقد قدرتها مطلقاً، بل تقود سلوكنا نحو ما تريد" 21.

إن الذلة والحقارة عند بعض المجرمين واضحة تماماً من خلال تواضعهم الشديد. إنهم يبدون تواضعاً مفرطا تجاه الناس بغية إخفاء جرائمهم. كذلك الموظفون الذين يرتشون ولا ينفذون المعاملات التي ترد عليهم إلا إذا كان صاحبها قد أسدى خدمة مهمة إليهم، فهؤلاء يتميزون بالتواضع وحسن الأخلاق مع المراجعين فيحدثونهم بكلمات من قبيل: في خدمتكم، طوع أوامركم، كما تأمرون، سمعاً وطاعة... وما شاكل ذلك.

لا ريب في أن هذا النوع من التواضع الذي يستند إلى الإجرام والخوف من الفضيحة ليس فاقداً للقيمة فحسب، بل إنه يدل على حقارة الشخص واستسلامه للذل والهوان.

قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "من أحبّ أن يكون أعزّ الناس فليتقّ الله عز وجل"22.

وقال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "من سرّه الغنى بلا مال، والعزّ بلا سلطان، والكثرة بلا عشيرة، فليخرج من ذل معصية الله سبحانه إلى عزّ طاعته"23.

وعن الإمام الصادق عليه السلام: "أوصيكم بتقوى الله، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلّوا"24.

5- طلب الجاه بلا كفاءة:

يصل بعض الأشخاص الفاقدين للكفاءة والجدارة الى مناصب كبيرة ليسوا أهلاً لها. إن الأفراد الواعين يمتنعون عن إطاعة مثل هؤلاء والإنقياد لهم.

قال الإمام الصادق عليه السلام: "من طلب الرئاسة بغير حق، حرم الطاعة له بحق"25.

هؤلاء الحكام غير الجديرين بإشغال مناصبهم يسلكون سلوكاً استبدادياً عنيفاً مع جميع الناس بصورة عامة، ومع المنقادين لهم بصورة خاصة، وربما أساؤا في الحديث معهم ولجأوا الى أساليب العنف والإضطهاد لإسكات روح الإعتراض والإنتقاد فيهم. ولكنهم قد يتذرعون بالتواضع واللين تجاه من هو أرفع منزلة منهم وبذلك يحفظون أنفسهم عن الإعتراضات والتشكيكات. إن الذين يستسلمون للذل والهوان، ويساومون بعزهم وشرفهم لقاء رئاسة لا يطول أمدها لهم أفراد حقراء خاسرون.

قال علي عليه السلام: "ساعة ذلّ لا تفي بعزّ الدهر"26.

 إن هؤلاء ليسوا يظلمون أنفسهم فقط بإهدار كرامتهم، بل يظلمون الناس أيضاً ويسوقونهم نحو الشقاء والدمار:

قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إذا ساد القوم فاسقهم، وكان زعيم القوم أذلهم، واكرم الرجل الفاسق فليُنتظر البلاء"27.

وفي حديث آخر عن الإمام أمير المؤمنين عليه السلام: "إذا ساد السفل خاب الأمل"28.

وعنه عليه السلام: "زوال الدول باصطناع السُفل"29.

الشرفاء والمناصب

إن الرجال الشرفاء ذوي الشخصية الرصينة عندما يصلون الى منصب كبير بفضل جدارتهم وكفاءتهم، يقومون بواجباتهم معتمدين على قوة الشخصية وشرف النفس... ولذلك فلا طريق للتملق والتزلّف، والحقارة والذلة الى أرواحهم الطاهرة ونفوسهم النزيهة.

قال علي عليه السلام: "ذو الشرف لا تُبطره منزلة نالها وإن عظمت، كالجبل الذي لا تزعزعه الرياح"30.

وكشاهد على ذلك أنقل لكم القصة الآتية:

لقد كان أبو منصور وزير السلطان طغرلبك رجلاً عالماً، قوي الشخصية، شديد الإيمان، مستقيماً في سلوكه. لقد كان ملتزماً بأداء واجباته الدينية بحيث كان يجلس للدعاء بعد أداء فريضة الفجر من كل يوم حتى طلوع الشمس. عند ذاك كان يستعد للذهاب الى البلاط الملكي.

وفي بعض الأيام بعث السلطان وراءه قبل طلوع الشمس. فجاء الخدم الى داره ووجدوه مشتغلاً بقراءه الأدعية فأبلغوه الإرادة الملكية، ولكن الوزير لم يلتفت الى كلامهم بل استمر في قراءة الأدعية. لقد تذرع الخدم بذلك وأخبروا الملك بأنه أهان أوامره، فغضب غضباً شديداً...

فرغ الوزير من عباداته، فركب جواده وذهب الى البلاط. وما أن دخل حتى واجهه الملك بأشد الخشونة قائلاً له: لماذا تأخرت ؟ !

عند ذاك قال الوزير:انني كنت منشغلا بعبادة الله، فاستحسن الملك من الوزير ذلك وأوصاه بالإستمرار على ذلك الأسلوب بتقديم واجب العبودية على واجب الخدمة كي ينتفع البلد بسداد آرائه31.

إن متانة الشخصية تبرز من خلال المنطق الصريح والبيان القاطع للفرد. كما أن الحقارة والخسة تتضح من خلال أحاديث الفرد أيضاً.

قال علي عليه السلام: "بيانُ الرجل يُنبىء عن قوّة جنانه"32.

الشرط الأساسي للتواضع

لقد اعتبر الإسلام التواضع من الصفات الحميدة والسجايا الطيبة، وحث على احترام الشخص المتواضع أيما احترام... لكنه يشدّد في النكير على الشخص الذي يستسلم للذل والهوان بصورة التواضع وبإسم التأدب.

إن الشرط الأساسي للتواضع هو الإطمئنان الروحي والإستقلال النفسي للفرد. وقد صرح الإمام أمير المؤمنين عليه السلام في الحديث الذي بدأنا به الممقال بذلك حيث قال في وصف المؤمن: "نفسه أصلب من الصلد، وهو أذل من العبد"33.

إن التواضع هو الذي يقوم بواجبه الإنساني دون خوف أو طمع.. وهو الذي يستند تواضعه إلى التعالي النفسي والتكامل الروحي. أما الأفراد الذين يتواضعون بسبب من الشعور بالحقارة، أو الشعور بالنقص، أو طلب الجاه، أو الطمع فإنهم لا يكتسبون فضيلة بذلك، بل يؤدي الإستمرار في هذه الحالة الى تأصل جذور الذل والحقارة في نفوسهم.

تجنب الذلة

إن الحفاظ على العزة والشرف والفرار من الذلة والخسة من أهم الواجبات القطعية على المسلمين حسب الأحاديث التي وردت، وأحاديث أخرى كثيرة واردة في كتب الحديث. إذ لا يجوز لمسلم قط أن يستسلم للذل والهوان، ويتنازل للتملّق والتزلف تحقيقاً لبعض الغايات.

إن أعظم مراتب العبودية والذلة يجب أن يلتزمها الفرد بين يدي الله تعالى الذي خلق الكون وزوّد كل شيء بالوسائل والأدوات اللازمة لحياته... إنه لا يليق الإنكسار والتواضع، والخضوع إلا بين يديه عز وجل.

التواضع في التعلم

لقد سمح الإسلام للفرد بالتواضع والخضوع في مورد آخر هو التعلم. على الجاهل أن يتواضع للعلماء حتى يستطيع استيعاب العلوم والمعارف منهم.

إن الأفراد الذين لم يتلقوا ثقافة ممتازة ويحاولون الإتصال بالعلماء ومعاشرتهم، يشعرون بالحقارة والذلة، ويرون أنفسهم دون مستوى الآخرين ويتألمون كثيراً من عجزهم عن المشاركة في الأحاديث العلمية.

هناك طائفة من الأفراد لا يرضون الإعتراف بجهلهم، ويحاولون إخفاء النقص الذي فيهم قدر الإمكان. ولكي يتظاهروا بالعلم والإدراك يقدمون على أفعال طفولية مخجلة. والعلاج القطعي لهذه الحالة هو التفرغ للدراسة والإجتهاد في التعلم. وهذا يحتاج إلى شجاعة وصراحة يجب على الفرد أن يعترف بنقصه ولا يجعل نفسه في عداد العلماء... إنه يجب أن يعرف حده الواقعي ولا يتجاوزه... أن يتواضع لأستاذه، ويحتمل ذلّ السؤال.

إن الإسلام يوافق على هذا التواضع ويرضى بهذا الذل، لأنه يؤدي الى أن يكتسب الإنسان علماً ويحصل على مكانة سامية. وهذا السلوك ليس خالياً من الضرر فقط، بل إنه يتضمن فوائد عظيمة.

1- قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "من لم يصبر على ذل التعلم ساعةً بقي في ذل الجهل أبداً"34.

2-
وعن الإمام الرضا عليه السلام: "العلم خزائن، ومفاتيحه السؤال"35.

3-
وقال أمير المؤمنين عليه السلام: "ليس من أخلاق المؤمن الملق ولا الحسد إلا في طلب العلم"36.

نستنتج من هذا مدى اهتمام الإسلام في تعاليمه القيمة بالحث على التعلم والتزّود بالثقافة والمعرفة إلى درجة بسمح للفرد بالتواضع والذل في طريق التعلم، في حين أنه يشدّد النكير على التملق والإفراط في التواضع في غير ذلك من الحالات.

*الطفل بين الوراثة والتربية، محمد تقي فلسفي، الأعلمي ط3، 2002م، ج2، ص340-355.


 

1- سفينة البحار القمي مادة وضع. ص 667.
2- نهج البلاغة، شرح الفيض الاصبهاني ص 1234.
3- تاريخ اليعقوبي ص 67.
4- مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج2-364.
5- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج5-63.
6- تحف العقول عن آل الرسول صلّى الله عليه وآله 489.
7- المحجة البيضاء في إحياء الأحياء للفيض للكاشاني ج4-108.
8- العروة الوثقى للسيد محمد كاظم اليزدي مسوغات التيمم المسألة 17.
9- الجعفريات ص 184.
10- تحف العقول عن آل الرسول ص 109.
11- نهج البلاغة، شرح الفيض الاصفهاني ص 1094.
12- ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي ج2-244.
13- عقدة حقارت ص 20.
14- عقدة حقارت ص 17.
15- عقدت حقارت ص 18.
16- لئالى الأخبار ص 128.
17- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج2-262.
18- الكافي لثقة الإسلام الكليني ج5-64.
19- المحجة البيضاء في إحياء الإحياء ج4-108.
20- سفينة البحار للقمي، مادة طمع. ص 93.
21- رشد شخصيت ص 17.
22- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17-48.
23- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 692.
24- وسائل الشيعة للحر العاملي ج3-202.
25- تحف العقول عن آل الرسول ص 321.
26- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 312.
27- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 443.
28- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17-41.
29- نفس المصدر ص 427.
30- المصدر السابق ص 407.
31- جوامع الحكايات ص 173.
32- غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص 343.
33- نهج البلاغة، شرح الفيض الاصفهاني ص 1234.
34- بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج17-46.
35- عيون أخبار الرضا باب- 30.
36- تحف العقول عن آل الرسول ص 207.

2009-08-27