يتم التحميل...

تاريخ التشيّع في لبنان (3) - بلاد كسروان

التشيُّع والمقاومة

اختلفت روايات المؤرّخين وآراؤهم في سكّان كسروان من غير الشيعة، فمنهم من رأى أنّهم كانوا دروزاً، ومنهم من رأى أنّهم كانوا موارنة، بينما رأى آخرون أنّهم كانوا من النصيريّة. ولا يوجد خلاف بين المؤرّخين - من الصديق والخصم والعدو -

عدد الزوار: 58

تاريخ الشيعة في كسروان

اختلفت روايات المؤرّخين وآراؤهم في سكّان كسروان من غير الشيعة، فمنهم من رأى أنّهم كانوا دروزاً، ومنهم من رأى أنّهم كانوا موارنة، بينما رأى آخرون أنّهم كانوا من النصيريّة. ولا يوجد خلاف بين المؤرّخين - من الصديق والخصم والعدو - على أنّ الشيعة كانوا من سكان هذه المناطق، ولكنّ الخلاف هو في أصل هذا الوجود وأسبقيته. وحسبُنا في هذا المجال، التركيز على بعض المرويّات والقرائن التاريخية، كرسالة ابن تيميّة عام 1340م وما تضمّنته من وصف سكّان كسروان، وما جرى له معهم، ومرويّات المؤرّخين الذين أشاروا إلى غلبة الوجود الشيعيّ في هذه المناطق.
 
فكمال الصليبي يغلّب وجود الشيعة خلال حكم المماليك من خلال تأكيده للمعارك التي جرت بينهم وبين السلطة المملوكية عام 1291م، معلّلاً ذلك ببقاء الشيعة خارج سلطة ملوك دمشق وحكّامها1.
 
أمّا محمد علي مكّي، فيؤكّد هذا الوجود، من خلال بعثة ابن تيميّة وفتواه، والنزوح إلى البقاع وجزّين، واستخدامه مصطلح الرافضة الذي عُرف به الشيعة2. ولكن عارف الزين يرى أنّ هذا المصطلح استخدم من قبل ابن تيميّة بحقّ كلّ من خالف مذهبه، سواء أكان الروافض من الشيعة أم من الموارنة أم من الدروز أم من النصيريّة. ولتحديد المصطلح بشكل دقيق، يمكن العودة إلى رسالة ابن تيميّة - وقد ذكرنا نصّها في هذا الكتاب -  ونصّ الرسالة طويل، وفيه الكثير من العناصر الهامّة عن مذهب الكسروانيين الذين أفتى ابن تيميّة بقتالهم، وفيها مقطع لا يترك مجالاً للشكّ في أنهم من الاثني عشريّة، وهذا الأمر تجلّى بذكره لإيمانهم واعتقادهم بالإمام المهديّ المنتظر، وبأنّه حجّة الله على أرضه، كما تُحدّد الرسالة مناطق انتشارهم. وبذلك تكون رسالة ابن تيميّة التي بعثها إلى الملك الناصر، والتي برّر فيها قتلهم وتخريب ديارهم، ما يؤكِّد أرجحيّة الوجود الشيعيّ في كسروان حتى أوائل القرن الرابع عشر للميلاد، حين اصطدموا مع الجيش المملوكيّ. وبقي هذا الوجود حتى أواخر القرن السابع عشر، ثمّ امتدّ إلى مناطق أخرى، على قاعدة تسلُّم السلطة. وكما يقول كمال الصليبي: "إنّه منذ أواخر القرن السابع عشر، وقعت مناطق بشرّي والبترون وجبيل المارونيّة، ومنطقة الكورة الملكيّة الأرثوذكسيّة، تحت نفوذ آل حمادة الشيعة الذين تولّوا أمر هذه المناطق عن ولاة طرابلس، ولم تكن للأمراء الشهابيين في البدء سيادة عليهم"3.
 
ومن الواضح في التاريخ  أنّ الكثير من العائلات الشيعيّة اتّجهت نحو منطقة بعلبك - الهرمل من مناطق مختلفة في لبنان، ولعلّ أكثرها أهميّة هو الجبل الذي نزحت منه العشائر الحماديّة وعائلات أخرى سكنته منذ قرون، فأقامت في كسروان وجبيل وركّزت فيها سلطتها، لكنّها اندفعت باتّجاه منطقة بعلبلك - الهرمل نتيجة الظروف السياسيّة غير المناسبة، وقد فصّلنا ذلك في الدرس السابق.
 
كسروان قلعة الشيعة الحصينة

بعد سقوط المدن اللبنانية الساحلية بأيدي الصليبيين، انتقل الوجود الإسلاميّ إلى الجبال المجاورة (كسروان)، علماً أنّ هذه المناطق كانت إسلامية قبل ذلك.
 
وقد استمرّ هذا الوجود كقلعة حصينة للإسلام إلى عام 1305م، حيث انتكس هذا الوجود انتكاسة خطيرة ومؤسفة على أيدي المماليك، نتيجة للتعصّب المذهبيّ، ولسيطرة وعّاظ السلاطين على عقول الأمراء.
 
وقد اعتمد المماليك سنّة دينية متعصّبة، ومن أجل هذا الهدف عمدوا إلى الضغط والإرهاب والتنكيل بأتباع المذاهب الإسلامية الأخرى.
 
وكان الناس إذا أرادوا أن يكيدوا لشخص دسّوا عليه من رماه بالتشيّع، فتصادر أملاكه وتنهال عليه العقوبات والإهانات حتى يُظهر التوبة عن التشيع.
 
وعندما تكون القضيّة كبيرة، وتشمل منطقة بأكملها، كانت دولة المماليك تتستّر، وتختلف حججاً مختلفة، كالاتّصال بالصليبيين أو المغول أو الأيوبيين لإسقاط حكم المماليك. ومن الأمثلة البارزة على ذلك ما حدث في كسروان من معارك رافقها العنف والتدمير، بالإضافة إلى فتاوى ابن تيمية في هدر دماء الكسروانيين.
 
جهاد الشيعة في كسروان وجبيل

الحملة الأولى:
استفاد الشيعة من مناعة مناطقهم الجبلية في كسروان، وتمتّعوا باستقلال تامّ عمّن يجاورهم من الصليبين في المدن الساحلية، وعمّن يجاورهم جنوباً وشرقاً من مذاهب أخرى. وبعد استرجاع المدن الساحلية من أيدي الصليبيين تردّد الشيعة الكسروانيون بشأن الخضوع الكامل للسلطة الجديدة، ما دفع المماليك لاتّخاذ قرارٍ بتصفية الشيعة في كسروان، حيث يبدو واضحاً من خلال العديد من النصوص التاريخية أنّ ملك الأمراء لاجين المملوكي نائب دمشق أخبر عساكره وأتباعهم أنّه من نهب امرأة منهم كانت له جارية أو صبياً كان له مملوكاً، ومن أحضر منهم رأساً فله دينار. وقد وجّه قائده سنقر لاستئصال شأفتهم4 ونهب أموالهم وسبيهم مع ذراريهم، وكان ذلك عام 1285م. لكنّ الشيعة في كسروان تصدّوا ببسالة واستماتة لهذه الحملات المتتالية.

الحملة الثانية:
أراد الكسروانيون الشيعة أن يثأرو، فتجدّد القتال سنة 1203م، فسارع المماليك إلى إرسال قوّة كبيرة إلى كسروان والجُبيليين، فوقعت معركة كبيرة عند مدينة جبيل، فحمل الكسروانيون على جيش المماليك، فقتلوا أكثره وغنموا أمتعتهم وأسلحتهم، وأخذوا أربعة آلاف من خيلهم، وهزموا الأكراد الذين قدِموا لنجدتهم. حاولت دولة المماليك أن تصلح الوضع بعد هزيمة جيشها على يد شيعة كسروان، ولعلّها أرادت بذلك أن تستفيد من هدنة ما، ريثما تعيد تنظيم الأمور والاستعداد لجولة قاصمة تستأصل من خلالها الوجود الشيعيّ في تلك الناحية.
 
فعمد ابن تيمية إلى إصدار فتوى بهدر5 دماء الشيعة الكسروانيين وهدم بيوتهم وحرق أشجارهم، وأنّ قتالهم (الكسروانيين) وقتال النصيرية (العلويين) أولى من قتال الأرمن، لأنّهم عدوّ في دار الإسلام، وشرّ بقائهم أضرّ.
 
الحملة الثالثة:
وبناءً على هذه الفتوى جهّز آقوش سنة 1305م جيشاً كبيراً، بلغ خمسين ألف محارب، وبدأ بغزو المناطق الكسروانية من الشمال، فعرفت بالفتوح` (فتوح كسروان) وسقطت كسروان بعد أحد عشر يوماً من القتال. فخرّب آقوش ضياعهم وقطّع كرومهم ومزّقهم، وملك الجبل عنوة، ووضع فيه السيف، وأسر ستمئة رجل، وغنمت العساكر منهم مالاً كثيراً، والسالم منهم تفرّق في جزّين وبلادها والبقاع وبلادها بعلبك، وبعضهم أعطته الدولة أماناً. وكانت أولى النتائج لتفريغ هذه المنطقة من سكّانها الشيعة، أن بدأت الهجرة المارونية إليها على نطاق واسع من شماليّ لبنان، لتغدو فيما بعد منطقة مارونية إلى يومنا هذا. وقد أصبحت جزّين مركزاً هامّاً للتجمّع الشيعيّ المستتر بالشافعية، خلال القرن الرابع عشر.
 
نتائج الحملات
لقد نتج عن هذه الحملات والحروب عدّة أمور انعكست على الشيعة ومناطقهم، منها:
- ازدهار بعلبك بالزراعة والصناعة والتجارة والعلم.
 - ظهور مقدّمية جزّين التي كانت نواة لنهضة علمية شيعية كبيرة فيما بعد، ومقدّمية أخرى في مشغرة على أيدي عائلة صبح.
 
منع الشيعة من ممارسة شعائرهم الدينية، فاعتمدوا مبدأ التقيّة، وأعلنوا انتماءهم للمذهب الشافعيّ، واستمرّ هذا الوضع حتّى قيام الحركة الشيعية على يد الشهيد الأوّل محمد بن مكّي الجزّينيّ سنة 1383م.

* كتاب منار الهدى، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- كمال الصليبي، منطلق تاريخ لبنان، الطبعة 2، (بيروت: دار نوفل، 1992م)، الصفحة 134.
2- محمد علي مكّي، لبنان من الفتح العربي إلى الفتح العثمانيّ (بيروت: دار النهار، 1985م)، الصفحة 229.
3- كمال الصليبي، تاريخ لبنان الحديث، الطبعة 7 (بيروت: دار النهار للنشر، 1991م)، الصفحة 32.
4- الشأفة: الأصل.
5- ابن تيميّة، وهو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد ابن تيمية، تقي الدين أبو العباس النميري، ولقبه "شيخ الإسلام". ولد يوم الإثنين 10 ربيع الأول 661 هـ، أحد علماء الحنابلة، ولد في حرّان، وهي بلدة تقع حالياً في جزيرة الشام، بين الخابور والفرات في ما يعرف حالياً بمنطقة الجزيرة السورية، وحرّان حالياً تقع داخل الحدود التركية، وهي على مقربة من الحدود السورية. وحين استولى المغول على بلاد حرّان وجاروا على أهلها، انتقل مع والده وأهله إلى دمشق سنة 667 هـ. كانت جدته لوالده تسمى تيميَّة، وعرف بها.
وله فتاوى كثيرة، منها فتواه الشيعة العلوية، فقال: وسُئِل رحمه الله تعالى: ما تقول السادة العلماء أئمّة الدين رضي الله عنهم أجمعين وأعانهم على إظهار الحقّ المبين وإخماد شعب المبطلين، في "النصيرية" القائلين باستحلال الخمر وتناسخ الأرواح وقدم العالم وإنكار البعث والنشور والجنّة والنار في غير الحياة الدنيا، وبأنّ "الصلوات الخمس" عبارة عن خمسة أسماء، وهي: علي وحسن وحسين ومحسن وفاطمة. فذكر هذه الأسماء الخمسة على رأيهم يجزئهم عن الغسل من الجنابة والوضوء وبقيّة شروط الصلوات الخمسة وواجباتها... وبعد أن ساق العديد من الصفات والنعوت إلى الشيعة وهم براء منها، أعلن فتواه، فقال:... وهذه الطائفة الملعونة استولت على جانب كبير من بلاد الشام، وهم معروفون مشهورون متظاهرون بهذا المذهب، وقد حقّق أحوالهم كلّ من خالطهم وعرفهم من عقلاء المسلمين وعلمائهم، ومن عامّة الناس أيضاً في هذا الزمان، لأنّ أحوالهم كانت مستورة عن أكثر الناس وقت استيلاء الإفرنج المخذولين على البلاد الساحلية، فلمّا جاءت أيام الإسلام انكشف حالهم وظهر ضلالهم. والابتلاء بهم كثير جداً. فهل يجوز لمسلم أن يزوّجهم أو يتزوّج منهم؟ وهل يحلّ أكل ذبائحهم والحالة هذه أم لا؟ وما حكم الجبن المعمول من إنفحة ذبيحتهم؟ وما حكم أوانيهم وملابسهم؟ وهل يجوز دفنهم بين المسلمين أم لا؟ وهل يجوز استخدامهم في ثغور المسلمين وتسليمها إليهم؟ أم يجب على وليّ الأمر قطعهم واستخدام غيرهم من رجال المسلمين الكفاة وهل يأثم إذا أخّر طردهم؟ أم يجوز له التمهّل مع أنّ في عزمه ذلك؟ وإذا استخدمهم وأقطعهم أو لم يقطعهم، هل يجوز له صرف أموال بيت المال عليهم؟ وإذا صرفها وتأخّر لبعضهم بقيّة من معلومه المسمى، فأخّره وليّ الأمر عنه وصرفه على غيره من المسلمين أو المستحقّين أو أرصده لذلك، هل يجوز له فعل هذه الصور؟ أم يجب عليه؟ وهل دماء النصيرية المذكورين مباحة وأموالهم حلال أم لا؟ وإذا جاهدهم وليّ الأمر أيّده الله تعالى بإخماد باطلهم وقطعهم من حصون المسلمين وحذر أهل الإسلام من مناكحتهم وأكل ذبائحهم وألزمهم بالصوم والصلاة ومنعهم من إظهار دينهم الباطل وهم الذين يلونه من الكفار: هل ذلك أفضل وأكثر أجراً من التصدّي والترصّد لقتال التتار في بلادهم وهدم بلاد سيس وديار الإفرنج على أهلها؟ أم هذا أفضل من كونه يجاهد النصيرية المذكورين مرابطا؟ ويكون أجر من رابط في الثغور على ساحل البحر خشية قصد الفرنج أكبر أم هذا أكبر أجرا؟ وهل يجب على من عرف المذكورين ومذاهبهم أن يشهر أمرهم ويساعد على إبطال باطلهم وإظهار الإسلام بينهم، فلعلّ الله تعالى أن يهدي بعضهم إلى الإسلام، وأن يجعل من ذريّتهم وأولادهم مسلمين بعد خروجهم من ذلك الكفر العظيم، أم يجوز التغافل عنهم والإهمال؟ وما قدر المجتهد على ذلك والمجاهد فيه والمرابط له والملازم عليه؟ ولتبسطوا القول في ذلك مثابين مأجورين إن شاء الله تعالى، إنّه على كل شيء قدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
6- أي عرفت منطقة كسروان بـ: "فتوح كسروان".

2014-09-22