يتم التحميل...

شريعة اللَّه وشريعة الغاب

نهج البلاغة

للَّه وللانسانية شريعة، وللغاب أيضا شريعة تقوم على القوة وحدها، فلا محاكمة وقوانين، ولا أصول واجتهادات، ولا نقاش وبيّنات.. أبدا لا شيء إلا استسلام الضعيف للقوي يحكم عليه بما يريد، ويفعل ما يشاء..

عدد الزوار: 10

( الذليل عندي عزيز حتى آخذ الحق له، والقوي عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه )

للَّه وللانسانية شريعة، وللغاب أيضا شريعة تقوم على القوة وحدها، فلا محاكمة وقوانين، ولا أصول واجتهادات، ولا نقاش وبيّنات.. أبدا لا شيء إلا استسلام الضعيف للقوي يحكم عليه بما يريد، ويفعل ما يشاء.. وبكلمة: الحق للقوة وصاحب العضلات، والضعيف مبطل ومفتر على كل حال.. أما شريعة اللَّه والانسانية فلها أصول وقوانين على أساس الحق والعدل، وللمتهم حق الاعتراض والدفاع عن النفس والحوار والنقاش، والإدلاء بكل ما لديه من حجج وما عنده من قرائن.

هذا ملخص الفرق بين شريعة اللَّه وشريعة الغاب، والأولى لعالم الانسان، والثانية لعالم الحيوان، ولكن في عالم التشريع ومن الوجهة النظرية فقط. أما من حيث العمل والتطبيق فلا فرق بينهما، فأكثر الناس منذ كانوا ومن هابيل وقابيل حتى يومنا هذا يعملون بشريعة الغاب، وينفذونها بإخلاص مع فارق واحد، وهو أن للضعيف تمام الحق في أن يتكلم ويعترض ويحتج ويناقش ويدلي بحجج الأرض والسماء، بل له أن يسب ويشتم في البرلمان وهيئة الأمم ومجلس الأمن، وفي الصحف والإذاعات.. في كل مكان.. ولكن في النهاية لا بد أن تنفذ في حقه شريعة الغاب، ويقع فريسة بين أنياب القوي على كل حال.

هذا هو منطق الناس، وعليه عملهم منذ القديم، أما منطق علي عليه السلام فهو الحق والعدل، وشريعته هي شريعة اللَّه والانسانية، فالقوة عنده للحق وحده، وصاحبه هو العزيز الغالب، وان كان ضعيفا معدما، والمبطل هو الحقير الأذل، وان كان قويا منعما.. ولا ريب ان هذا الطراز من الحكم لا تتحمله الناس، بل يراه الكثيرون قسوة وفظاعة، وأي « سيد » يرضى أن يكون هو والعبد سواء أمام الحق وفي روضة الكافي للكليني « ان الإمام قسم العطاء في ذات يوم، فأعطى رجلا من الأنصار ثلاثة دنانير، وجاء بعده غلام أسود، فأعطاه ثلاثة دنانير، فقال الأنصاري: يا أمير المؤمنين هذا غلام أعتقه بالأمس، وتجعلني وإياه سواء فقال الإمام عليه السلام: اني نظرت في كتاب اللَّه فلم أجد فضلا لولد إسماعيل على ولد اسحق - ملاحظة الإمام من ولد إسماعيل - ثم قال الإمام: ان آدم لم يلد عبدا ولا أمة، ان الناس كلهم أحرار ».

هذا هو الاسلام في واقعه وجوهره: الناس كلهم أحرار، كلهم سواء تماما كأسنان المشط كما قال سيد الكونين محمد بن عبد اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم.. وما خلق اللَّه الأسود حين خلقه ليكون رقا لأخيه الأبيض، حاشا وجل، ولكن الناس قد تبانوا فيما بينهم على وجود الرق في مرحلة من مراحل التاريخ حيث لا آلة، ولا حيوان يفي بالعمل المطلوب للانتاج، ولا غنى للحياة بوجه إلا بالرق، ومن أجل هذا أقره جميع الأنبياء قبل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وما أنكره فيلسوف ولا مصلح، ولما جاء الاسلام لم يجد الوسيلة لإلغائه فقيّده بقيود لصالحه، وفتح أبوابا لعتقه ذكرت في كتب الفقه والحديث، ولما تقدمت العلوم ووجدت الآلة واستقامت الحياة بدون الرق، وألغاه الانسان من الأساس فإن الاسلام يقر هذا الإلغاء ويباركه، ما في ذلك ريب.


* في ظلال نهج البلاغة / العلامة محمد جواد مغنية /1/240_241.

2015-03-07