يتم التحميل...

الأئمة عليهم السلام والآخرون

الإمام الخامنئي دام ظله

"... الإمام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلَّمه صندوقاً... تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم... وتذكر أن فيه سلاح رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له:

عدد الزوار: 27

الأئمة عليهم السلام والحكام‏

الإمام القائد دام ظله يتحدّث عن هذا الجانب، بإشارته إلى رواية مهمّة، يقول دام ظله:

"... الإمام السجاد عليه السلام عندما حضرته الوفاة أوصى أن يكون ابنه محمداً إماماً من بعده في حضور سائر أبنائه وعشيرته وسلَّمه صندوقاً... تذكر الروايات أنه مملوء بالعلم... وتذكر أن فيه سلاح رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم وقال له:

"يا محمد هذا الصندوق فاذهب به إلى بيتك" .

ثم قال عليه السلام:

"أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم، ولكنه كان مملوءاً علماً"1.

لعلّ هذا الصندوق يرمز إلى أن الإمام السجاد عليه السلام سلَّم ابنه محمداً مسؤولية القيادة الفكرية والعلمية (فالصندوق مملوء بالعلم) وسلَّمه مسؤولية القيادة الثورية (سلاح النبي)".

فتسليم الإمام السجاد عليه السلام لابنه الإمام الباقر عليه السلام السلاح إلى جانب الوثائق العلمية، دلالة على أن الأئمة ليسوا علماء فحسب، بل هم أيضاً مجاهدون وتاريخهم يحكي لنا عن ذلك، وإن اختلفت صور جهادهم باختلاف ظروفهم. ويعطي القائد مثالاً عن جهاد الإمام السجاد عليه السلام، الذي يحسبه الكثيرون أنه إمام دعاء ومناجاة وعلمٍ فقط.

يقول القائد دام ظله:

"... لم أرَ في حياة الإمام السجاد عليه السلام ما يدل على مواجهة صريحة مع الجهاز الحاكم، والحكمة كانت تقتضي ذلك كما ذكرنا لأنه لو اتخذ مثل تلك المواقف التي نشاهدها في حياة الإمام موسى بن جعفر عليه السلام وبعده من الأئمة تجاه حكام عصره لما استطاع أن يحقق ما حققه من دفع عملية التغيير دفعة استطاعت أن توفّر للإمام الباقرعليه السلام فرصة نشاط واسع، بل لصُفّي هو والمجموعة الصالحة الملتفّة حوله.

في مواقف نادرة نلمس من الإمام عليه السلام رأيه الحقيقي من السلطة الحاكمة، ولكن ليس على مستوى المواجهة، بل على مستوى تسجيل موقف للتاريخ...

ثمّة وثيقة... هي عبارة عن رسالة جوابية وجهها الإمام عليه السلام إلى عبد الملك بن مروان بعد أن أرسل الثاني رسالة يعيّر فيها الإمام بزواجه من أمته المحرّرة، وقصد ابن مروان بذلك أن يبين للإمام عليه السلام أنه محيط بكل ما يفعله حتى في أموره الشخصية، كما أراد أيضاً أن يذكّر الإمام بقرابته منه طمعاً في استمالته، والإمام عليه السلام في رسالته الجوابية يوضح رأي الإسلام في هذه المسألة. ويؤكد أن امتياز الإيمان والإسلام يلغي كلّ‏َ امتياز آخر. ثم بأسلوب كناية في غاية الروعة يشير الإمام عليه السلام إلى جاهلية آباء الخليفة، بل لعله يشير أيضاً إلى ما عليه الخليفة بالذات من جاهلية إذ يقول له:

"فلا لؤم على امرئ‏ مسلم، إنما اللؤم لؤم الجاهلية"2.

وحين قرأ الخليفة الأموي عبارة الإمام عليه السلام أدرك معناها تماماً، كما أدرك المعنى ابنه سليمان إذ قال له: "يا أمير المؤمنين لسَدَّ ما فخر عليك علي بن الحسين".

والخليفة بحنكته السياسية يرد على ابنه بما يوحي أنه أعرف من الابن بعاقبة الاصطدام مع إمام الشيعة فيقول له: "يا بني لا تقل ذلك فإنها ألسن بني هاشم التي تغلق الصخر وتغرق من بحر، إن علي بن الحسين يا بني يرتفع من حيث يتضّع الناس"3.

ونموذج آخر من هذه المواقف ردّ الإمام عليه السلام على طلب تقدم به عبد الملك بن مروان. كان عبد الملك قد أبلغه أن سيف رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم عند الإمام. فبعث إليه من يطلب منه أن يهب السيف للخليفة، وهدده إن أبى بقطع عطاء بيت المال عنه.

فكتب إليه الإمام عليه السلام:

"أما بعد فإن اللَّه ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون، وقال جلّ ذكره: "إن اللَّه لا يحب كل خوان كفور، فانظر أيَّنا أولى بهذه الآية..."4.


الأئمة عليهم السلام ووعاظ السلاطين‏

صحي أن العلماء ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، إلا أن هذا السلك يدخله أحياناً من ليس بأهلٍ أن يتّبع، لأنه لا يكون للمستضعفين، بل يكون بوقاً للحكّام المستكبرين.

وهؤلاء كانوا على مرِّ التاريخ، ولقد ابتلي بهم أئمة أهل البيت بلاءً عظيماً، وواجههم الأئمة مواجهة ساخنة، لخطورتهم على عامَّة الناس؛ إذ أن الناس تبهرهم ظواهر الأمور ولا يتطلّعون إلى عمق القضايا، وروح الحقائق.

يقول القائد دام ظله:

"... بالنسبة للزهري وأمثاله فقد وقف الإمام السجاد عليه السلام موقفاً حازماً وقاسياً جدّاً حيث يلحظ هذا من خلال الرسالة التي وجهها إليه، وقد يتساءل البعض إلى أي مدى يمكن أن تعكس "الرسالة" هذا الموقف الشديد، ولكن بالالتفات إلى شدّة اللهجة في مضمون هذه الرسالة الموجهة إلى نفس الزهري وكذلك بالنسبة للجهاز الحاكم وإنها لا تنحصر بمحمد بن شهاب بل كانت تقع في أيدي الآخرين وتنتقل عبر الألسن وتبقى عبر التاريخ...

بالالتفات إلى هذه الأمور، يمكن أن ندرك حجم الضربة التي وجهت للقداسة الشيطانية والاصطناعية لمثل أولئك العلماء. لقد كانت الرسالة خطاباً لمحمد بن شهاب ولكنها نالت من أشخاص آخرين على شاكلته. ومن المعلوم أن هذه الرسالة عندما تقع بأيدي المسلمين وبالأخص شيعة ذلك العصر وتنتقل عبر الأيدي فأي سقوط لهيبة هؤلاء ومكانتهم في الأعين؟

وهنا ننقل مقاطع من هذه الرسالة، في البداية يقول عليه السلام:

"كفانا اللَّه وإياك من الفتن ورحمك من النار"5.

في الجزء الثاني من هذه الجملة نجده يخصه بالخطاب، لماذا؟ لأن كل إنسان يتعرض للفتن حتى الإمام السجاد عليه السلام بدون أن يسقط فيها، ومحمد بن شهاب يتعرض للفتنة ولكنه سقط، أما بالنسبة لنار جهنم فإنها لا تقترب من الإمام زين العابدين عليه السلام ولهذا خصّ الكلام هنا الزهري.

وابتداء الرسالة بمثل هذه اللهجة دليل على تعامل الإمام معه بطريقة تحقير ومعاداة.

ثم يقول عليه السلام:

"فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك..."6.

ويذكر جملة من آيات القرآن ويقول أن اللَّه تعالى لن يرضى أبداً عن قصورك وتقصيرك لأنه سبحانه قد أمر العلماء بتبيين الحقائق للناس:

"لتبيننه للناس ولا تكتمونه"7.

وبعد هذه المقدمة يحمل عليه بطريقة قاسية جداً بقوله عليه السلام:

"واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخف ما احتملت، أن آنست وحشة الظالم، وسهلت له طريق الغي بدنوك منه حين دنوت واجابتك له حين دعيت...".

والجملة المؤثرة جداً في هذه الفقرة عندما يقول عليه السلام:

"أو ليس بدعائه إياك، حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم وجسراً يعبرون عليه إلى بلاياهم وسلماً إلى ضلالتهم داعياً إلى غيّهم سالكاً سبيلهم، يدخلون بك الشك على العلماء ويقتادون بك قلوب الجهال إليهم".

ثم يقول عليه السلام:

"فلم يبلغ أخص وزرائهم ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم"8.

في هذه الرسالة الشديدة اللهجة والبليغة يفضح الإمام السجاد تلك الحركة السياسية التي استغلت الفكر والعلم.

فأولئك الذين قبلوا مهادنة النظام أصبحوا مطالبين بالإجابة عن السؤال الذي بقي في المجتمع الإسلامي وسوف يبقى عبر التاريخ...".

الأئمة عليهم السلام والشعراء

لقد كان الشعراء في زمن الأئمة عليهم السلام بمثابة الإعلام في عصرنا، فلهم التأثير القوي على الرأي العام، ومنهم الشعراء المخلصون بكلمتهم لأهل البيت، ومنهم من باع دينه وضميره ولسانه للحكّام الفاسدين الظلمة.

ومن الشعراء الشجعان، الذين يقولون الكلمة الحقّة ولو على حساب مصالحهم الفرزدق، يقول القائد دام ظله:

"... ويمكن اعتبار شعر الفرزدق نموذجاً آخر (للتحدي والقوة والثورة)، فقد نقل المؤرخون والمحدثون هذه الحادثة (ما ملخصها):

عندما قدم هشام بن عبد الملك قبل فترة خلافته إلى الحج وأثناء الطواف أراد أن يتقدم لاستلام الحجر الأسود ولكن العدد الهائل والازدحام الكبير منعه من الوصول.

رغم محاولته المتكررة مع أنه كان ابن الخليفة ومحاطاً بالمرافقين والحواشي ولكن الناس كانوا يمرّون من حوله بدون اكتراث. فيئس من استلام الحجر وقعد جانباً منتظراً انصراف الناس، وكان أصحابه جالسين حوله.

وفي هذه الأثناء يأتي رجل يعلوه الوقار والهيبة سيماه سيماء الزاهدين ووجهه وجه الملكوتيين يسطع من بين الحجاج كالشمس فتنحّى الناس له جانباً ليمر من بينهم ويصل إلى الحجر الأسود فيقبّله ثم يرجع للطواف مجدّداً.

فصعب ذلك على هشام كثيراً، وهو يرى نفسه ابن الخليفة ولا أحد يعطيه قيمة بل يبعدونه بالركل والمطاحنة، ثم من جانب آخر يظهر رجل يصل إلى الحجر الأسود بكل هدوء.

فسأل غاضباً من هذا؟ وكان حواشيه يعرفون أنه علي بن الحسين‏عليه السلام ولكن لئلا يغضب منهم لم يقولوا شيئاً لأنهم يعلمون بوجود العداء المتجذر بين بني أميّة وبني هاشم فلم يريدوا أن يقولوا أن هذا كبير العائلة المعادية لكم والناس يظهرون له كل هذا الحب والاحترام لأنهم اعتبروا ذلك نوعاً من الإهانة لهشام.

كان الشاعر الفرزدق من المحبين لأهل البيت حاضراً هناك وقد رأى تجاهلهم وإنكارهم لعلي بن الحسين عليه السلام فتقدم قائلاً: أيها الأمير، هل تسمح لي بأن أعرّفك عليه.

فقال هشام: قل، فانطلق لسان الفرزدق بقصيدة من أشهر القصائد الشعرية التي قيلت بحق أهل البيت عليهم السلام، وبدأها بهذا البيت:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته‏**والبيت يعرفه والحل والحرم‏
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله‏**بجدّه أنبياء اللَّه قد ختموا


وكانت أبيات هذه القصيدة كوقع السيوف على قلب هشام فغضب منه وطرده، من جانب آخر أرسل إليه الإمام عليه السلام مالاً فلم يقبله وقال: "ما قلته للَّه لم أرد منه مالاً...".

هذا مثال الشاعر المبدأي الذي لا يبيع دينه ولسانه، وهناك الشعراء الذين ينطبق عليهم قول اللَّه تعالى:

﴿وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ9.

يقول القائد دام ظله في هذا الصنف من الشعراء:

"... كان شعراء بني العباس يحاولون إثبات حق الحكم لبني العباس استناداً إلى الأدلة نفسها التي يقدمها عادة الطامعون إلى السلطة والمتشبثون بكرسي الحكم، ويقف شعراء الشيعة مقارعين لحججهم مستدلين على زيف الحكم العباسي من منطق إسلامي، يقوم على أساس رفض الظلم والإجرام والخيانة بحق الأمة الإسلامية، وللحجاج الشعري بين العباسيين والعلويين أهمية في هذا المجال، لما كان ينهض الشعر آنئذ من دور كبير في التعبير عن العواطف والأفكار ولما كان يؤديه في القاعدة الشعبية من تأثير.

يذكر صاحب كتاب "العباسيون الأوائل" دور الأدب في القرنين الأول والثاني فيقول: "... كان الأدب يؤثر في النفوس ويكسب عواطف الناس وميولهم إلى هذه الفئة أو تلك، وكان الشعراء والخطباء بمثابة جريدة العصر، يعبِّر كل منهم عن رأي سياسي ويدافع عن حزب معين، مبرزاً الدليل تلو الدليل على صحة دعواه، مفنّداً آراء الخصوم بكلام مؤثر وأسلوب بليغ"10.

شعراء البلاط العباسي كانوا يجتهدون في إثبات حق العباسيين في الخلافة، باعتبار ارتباطهم بالنبي عن طريق العمومة، مستدلين على ذلك بأن الإرث لا ينتقل إلى أبناء البنت مع وجود الأعمام. فالخلافة بعد النبي من حقّ العباس عم النبي ومن بعده أبناؤه من بني العباس.

قال مروان بن أبي حفصة:
أنّى يكون وليس ذاك بكائن‏**لبني البنات وراثة الأعمام‏

وقال أبان بن عبد الحميد اللاحقي:
فأبناء عباس هم يرثونه**كما العمُ لابن العم في الإرث قد حجب‏

وقد كان أهل البيت عليهم السلام يهاجمون الشعراء الداعمين والمادحين للظلمة، يقول القائد دام ظله:

"اتجهت مدرسة أهل البيت عليهم السلام فيما اتجهت إلى تقريع أولئك الذين باعوا ذممهم من العلماء والشعراء، في محاولة لايقاظ ضمائرهم أو ضمائر أتباعهم من عامة الناس".

نرى الإمام يقول للكميت الشاعر مؤنباً: "امتدحت عبد الملك؟ قال: ما قلت له يا إمام الهدى، وإنما قلت يا أسد، والأسد كلب، ويا شمس، والشمس جماد، ويا بحر، والبحر موات، ويا حيّة، والحيّة دُويبة منتنة، ويا جبل، وإنما هو حجر أصمّ.

فتبسم الإمام وأنشد الكميت بين يديه:
من لقلبٍ متيم مستهام غير ما صبوةٍ ولا أحلام‏

وبهذه الميمية يضع الحد الفاصل بين الاتجاه العلوي والأموي في المكانة والسيرة في صورة فنية رائعة خالدة...".

* خطوط عامة من سيرة الأئمة عليهم السلام، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- بحار الأنوار، ج‏46، ص‏229.
2- الكافي، ج‏5، ص‏345.
3- تحف العقول، الحرّاني، ص‏272، ط جماعة المدرسين قم.
4- المصدر نفسه، ص‏95.
5- بحار الأنوار، ج‏75، ص‏132.
6- المصدر نفسه.
7- آل عمران:187.
8- بحار الأنوار، ج‏75، ص‏132.
9- الشعراء:224-225-226.
10- العباسيون الأوائل، د. فاروق عمر، ص‏104.

2015-03-07