يتم التحميل...

المدارس الفقهيـّة الشيعيـّة (1) المدينة المنوّرة- الكوفة

علم الفقه

عندما نتحدّث عن مدرسة فقهيّة في بلدٍ خاصٍ كالمدينة، أو الكوفة أو بغداد أو النجف، فنحن لا نعني أنّ الفقه وكلّ المدارس الفقهيّة قد تمركزت في هذا البلد، وأنّ روّاد هذه المدرسة لم يتجاوزوا هذه النواحي قطّ، ولم يكن لهم أيّ دورٍ في تكوين مدرستهم

عدد الزوار: 54

تمهيد
عندما نتحدّث عن مدرسة فقهيّة في بلدٍ خاصٍ كالمدينة، أو الكوفة أو بغداد أو النجف، فنحن لا نعني أنّ الفقه وكلّ المدارس الفقهيّة قد تمركزت في هذا البلد، وأنّ روّاد هذه المدرسة لم يتجاوزوا هذه النواحي قطّ، ولم يكن لهم أيّ دورٍ في تكوين مدرستهم في بلدانٍ أخرى. وإنّما نعني أن هذه المدرسة بلغت نضجها وكمالها الخاصّ في هذا البلد بالخصوص، وكان لها الأثر الكبير في تكوينها وبلورتها، وإن كان للبلدانِ الأخرى دورٌ وتأثيرٌ في تكوينها وبلورتها، وتركت آثاراً في تكامل هذه المدرسة.

فقد مرّ على الفقه في مدرسة أهل البيت عليهم السلام مراحل مختلفة، من الصعب تحديدها تحديداً دقيقاً، ولكن يمكن حصرها على وجه التقريب في بعض المدارس الكبرى بحسب العصور.

1- مدرسة المدينة المنوّرة
وعصرها هو عصر الصحابة والتابعين لهم. فقد ظهر الفقه من حين ظهور المجتمع الإسلاميّ في المدينة المنوّرة، واستمرّت الحركة العلميّة والفقهيّة إلى حياة الإمام الصادق عليه السلام، فكانت المدينة المنوّرة هي المنطلق الأوّل للرسالة الإسلاميّة، والمدرسة الأولى للفقه الإسلاميّ، وكانت الوطن الأوّل لفقهاء الشيعة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، فكان من فقهاء الصحابة- بعد الإمام أمير المؤمنين والزهراء والحسنين عليهم السلام وهم الذين تولّى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تربيتهم وتعليمهم:

ابنُ عباس، وسلمان الفارسيّ، وأبو ذرّ الغفاريّ، وأبو رافع إبراهيم مولى رسول الله، قال النجاشيّ: "أسلم أبو رافع قديماً بمكّة، وهاجر إلى المدينة، وشهد مع النبيّ مشاهده، ولزم أمير المؤمنين عليه السلام من بعده، وكان من خيار الشيعة، وشهد معه حروبه، وكان صاحب بيت ماله بالكوفة"1 "ولأبي رافع كتاب السنن والأحكام والقضاء"2.

وكان من التابعين جمع كثير من شيعة أمير المؤمنين عليه السلام حفظوا السنّة النبويّة، وتداولوها فيما بينهم، ونقلوها إلى الأجيال التي تليهم بأمانةٍ، حتّى قال الذهبيّ: "فهذا (أي التشيّع) كثيرٌ في التابعين وتابعيهم مع الدين، والورع والصدق، فلو ردّ حديث هؤلاء (أي الشيعة) لذهبت جملة الآثار النبويّة"3.

في عهد الخليفة الثاني
منع عُمر بن الخطاب من تدوين السنّة النبويّة لعوامل عدّة، فبقيت في صدور الصحابة والتابعين يتناقلونها حتّى خلافة عُمر بن عبد العزيز، حيث أمر محمّدَ بن مسلم بن شهاب الزهريّ بتدوينه، فلم يتّفق لمحدّثي غير الشيعة من الصحابة والتابعين تدوين السنّة النبويّة قبل هذا الوقت، ولكن فقهاء الشيعة دوّنوا عدّة مدوّنات حديثيّة مهمّة، فكان أمير المؤمنين عليه السلام أوّل من صنّف في الفقه، ودوّن الحديث النبويّ، ولم يوافق عمر بن الخطاب على رأيه. قال السيوطيّ في تدريب الراوي: "كان بين السلف من الصحابة والتابعين اختلافٌ كثيرٌ في كتابة العلم، فكرهها كثيرٌ منهم، وأباحتها طائفة وفعلوها: منهم: عليّ وابنه الحسن"4.

وفي كتاب الكافي عن يحيى بن جرير قال: قال أبو عبد الله الصادق عليه السلام: "كان سعيد بن المسيّب والقاسم بن محمّد بن أبي بكر، وأبو خالد الكابليّ، من ثقات عليّ بن الحسين عليهما السلام"5.

والخلاصة أنّه كان فقهاء الشيعة وعلى رأسهم أئمّة المسلمين من أهل البيت عليهم السلام، يقودون الحركة الفكريّة في العالم الإسلاميّ، وانطلقت هذه الحركة من المدينة المنوّرة بشكلٍ خاصّ، وبلغ هذا الازدهار الفكريّ غايته في عهد الإمام الصادق عليه السلام فازدهرت المدينة في عصره، وزخرت بطلاب العلوم ووفود الأقطار الإسلاميّة، وانتظمت فيها حلقات الدرس، وكان بيته جامعةً إسلاميّةً يزدحم فيه رجال العلم، وحملة الحديث، من مختلف الطبقات ينتهلون من موارد علمه.

قال الشيخ المفيد عن الإمام الصادق عليه السلام: "ونقل الناس عنه من العلوم ما سارت به الركبان، وانتشر ذكره في البلدان. ولم يُنقل عن أحدٍ من أهل بيته العلماء ما نقل عنه، ولا لقيَ أحدٌ منهم من أهل الآثار ونقَلَةِ الأخبار، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد الله عليه السلام، فإنّ أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرواة عنه من الثقات، على اختلافهم في الآراء والمقالات، فكانوا أربعة آلاف رجلٍ"6.

ملامح المدرسة

كانت ملامح المدرسة الفقهيّة في المدينة المنوّرة بدائية إلى حدٍّ ما، ولم تتبلور المسائل الخلافيّة في الفقه بين مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومدرسة الخلفاء، كما تبلورت بعد في مدرسة الكوفة على يد تلامذة الإمام الصادق عليه السلام واستمرّت إلى أيّام الإمام الرضا عليه السلام. فالاختلاف في القياس والاستحسان والرأي والاجتهاد، ومسائل الصلاة والوضوء والحجّ الخلافيّة، لم تظهر واضحةً في هذه الفترة بالذات.

"ولم تكن هناك كتبٌ فقهيّة تعنى بالفتاوى خارج نطاق المدوّنات الحديثيّة. كما لم تتبلور بعد لدى فقهاء الشيعة صياغةُ المقاييس الخاصّة للاجتهاد والفتيا بصورةٍ كاملةٍ، والمقاييس الخاصّة لمعالجة الأخبار المتعارضة، فلم يكثر الحديث بعد عن أهل آل البيت عليهم السلام، ولم يدرس في حديثهم بعد الشيء الكثير من الحديث المدسوس، ولم يشقّ على الفقهاء الرجوع إلى الأئمّة عليهم السلام للسؤال فيما يعرضهم من حاجةٍ، أو ما يعرض الناس، فلم تظهر حاجةٌ ملحّةٌ إلى اتخاذ مقاييس للرأي والاجتهاد، ومقاييس لمعالجة الأحاديث المتعارضة، ومعرفة السقيم منها من الصحيح، ولم يراجعوا الأئمّة في شيءٍ من ذلك، ولذلك كان البحث الفقهيّ في هذا الدور يقطع مراحل حياته الأولى"7.

ويمكن تحديد ملامح هذا العصر في الخطوط الثلاثة التالية:
1- قلّة المدوّنات الحديثيّة واضطرابها في الجمع والتبويب.
2- عدم تبلور المسائل الخلافيّة بين المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة بصورةٍ واضحةٍ.
3- عدم اتخاذ مقاييس للاجتهاد والفتيا فيما لا نصّ في مورده، ومعالجة الأحاديث الفقهيّة المتعارضة.

2- مدرسة الكوفة
في أخريات حياة الإمام الصادق عليه السلام، انتقلت مدرسة الفقه الشيعيّ من المدينة إلى الكوفة. وبذلك بدأت حياةٌ فقهيّةٌ جديدةٌ في الكوفة، حيث كانت آنذاك مركزاً صناعيّاً، وفكريّاً كبيراً، تقصده البعثات العلميّة والتجاريّة، فذكر البلاذريّ أنّ أربعة آلاف من رعايا الفرس وفدوا إلى الكوفة8، وقد أثّر وفود العناصر المختلفة إلى الكوفة طلباً للعلم، أو التجارة في التلاقح العقليّ والذهنيّ في هذه المدرسة. وقد هاجر إليها فوق ذلك وفود من الصحابة والتابعين، والفقهاء وأعيان المسلمين، من مختلف الأمصار، وبذلك كانت الكوفة، حين انتقل إليها الإمام الصادق عليه السلام وانتقلت إليها مدرسة الفقه الشيعيّ، من أكبر العواصم الإسلاميّة.

"وقد عدّ البراقي في تاريخ الكوفة 148 صحابيّاً من الذين هاجروا إلى الكوفة واستقرّوا فيها، ما عدا التابعين والفقهاء الذين انتقلوا إلى هذه المدينة، والذين كان يبلغ عددهم الآلاف، وما عدا الأسر العلمية التي كانت تسكن هذا القطر. وقد أورد ابن سعد في الطبقات ترجمة ل‍850 تابعيّا ممن سكن الكوفة"9. في مثل هذا الوقت انتقل الإمام الصادق عليه السلام إلى الكوفة أيّام أبي العباس السفاح، واستمرّ بقاؤه عليه السلام فيها مدّة سنتين.

وقد اشتغل الإمام الصادق عليه السلام هذه الفترة بالخصوص في نشر المذهب الشيعيّ، لعدم وجود معارضة سياسيّة قويّة، حيث سقطت في هذه الفترة الحكومة الأمويّة، وظهرت الحكومة العباسيّة، واغتنم الإمام الصادق عليه السلام فرصة الصراع على الحكم للدعوة إلى المذهب، ونشر أصول مدرسة أهل البيت عليهم السلام، فازدلفت إليه الشيعة من كلّ فجٍّ زرافاتٍ ووحداناً تستقي منه العلم، وترتوي من منهله العذب، وتروي عنه الأحاديث في مختلف العلوم. قال الحسن بن علي بن زياد الوشاء لابن عيسى القميّ: "إنّي أدركت في هذا المسجد (يعني مسجد الكوفة) تسعمائة شيخٍ كلٌّ يقول: حدّثني جعفر بن محمّد عليه السلام "10.

فازدهرت مدرسة الكوفة على يد الإمام الصادق عليه السلام وتلاميذه، فكانت الكوفة هي منطلق الحركة العقليّة في العصر الثاني من عصور تأريخ الفقه الشيعيّ، ومبعث هذه الحركة، ومركز الإشعاع، وظلّت تعدّ من أهمّ مراكز الفقه الشيعيّ، تقصدها البعثات الفقهيّة الشيعيّة. ويتعاقب فيها فقهاء الشيعة، مركز الصدارة في التدريس، والفتيا، والبحث الفقهيّ.

أبرز أصحاب الإمام الصادق عليه السلام
وكان من بين أصحاب الإمام الصادق عليه السلام من فقهاء الكوفة:

1- أبان بن تغلب بن رباح الكوفيّ الذي روى عنه عليه السلام (30000) حديثاً.
2- محمّد بن مسلم الكوفيّ. روى عن الباقرين عليهما السلام (40000) حديثاً. وقد صنّف الحافظ أبو العبّاس بن عقدة الهمدانيّ الكوفيّ المتوفّى سنة 333 هـ كتاباً في أسماء الرجال الذين رووا الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام فذكر ترجمة (4000) رجلٍ.

كلّ ذلك بالإضافة إلى البيوتات العلميّة الكوفيّة التي عرفت بانتسابها إلى الإمام الصادق عليه السلام، واشتهرت بالفقه والحديث كبيت آل أعين، وبيت آل حيّان التغلبيّ، وبيت بني عطيّة، وبيت بني دراج، وغيرهم من البيوتات العلمية الكوفية الشيعيّة، التي اشتهرت بالفقه والحديث.

خوف العباسيّين
أدّى التجمّع والالتقاء بالإمام الصادق عليه السلام في الكوفة، والاحتفاء به إلى أن يأخذ الجهاز العباسيّ الحاكم حذره منه، فخاف المنصور الدوانيقيّ أن يفتتن الناس بالإمام عليه السلام لما رأى من إقبال الفقهاء والناس عامّة عليه، ممّا حداه على أن يطلبه إلى قربه في بغداد.

ورغم العقبات الكبرى التي اصطدم بها أئمّة الشيعة من أهل البيت عليهم السلام، وفقهاء الشيعة ورواة الحديث، من ضغط الجهاز الحاكم والمعارضات، والتهم والافتراءات، والتهريج الذي كان يقوم به الجهاز، تقدّمت الدراسة الفقهيّة الشيعيّة، وتدوين الحديث شوطاً كبيراً في هذه الفترة، وتركت لنا هذا التراث التشريعي الضخم الذي تمتلئ به المكتبات، وتحتفل به المجموعات الضخمة.

ملامح المدرسة

1- ظهرت ظاهرة التدوين من أيّام الإمام الباقر عليه السلام ونمت أيّام الإمام الصادق عليه السلام، حيث أخذ الإمام الصادق عليه السلام - لما رأى من ضياع الأحاديث والسنن- يحثّ الرواة والعلماء على تدوين السنّة وكتابتها.
عن أبي بصير قال: "دخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقال: ما يمنعكم من الكتاب؟! إنّكم لن تحفظوا حتّى تكتبوا، إنّه خرج من عندي رهطٌ من أهل البصرة يسألون عن أشياء فكتبوها"11.

2- توسّعت حاجات المسلمين في هذا الوقت، وازدحم الناس على أبواب الفقهاء يطلبون منهم الرأي فيما استجدّ عليهم، ولم يكن ما بيد فقهاء السنّة ومحدّثيها من الحديث ما يكفي لسدّ هذه الحاجة، كما ولم يجدوا في الكتاب الكريم جواباً عنها، ولم يكن الجهاز القائم بالحكم يسمح لهم بمراجعة أئمّة أهل البيت عليهم السلام الذين اعتبرهم صاحب الرسالة صلى الله عليه وآله وسلم عدلاً للكتاب في حديث الثقلين المعروف، فاضطروا إلى اتخاذ القياس والاستحسان، والأخذ بالظنّ والرأي.

3- حدوث الاختلاف في نقل الروايات، فقد شاع نقل الحديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في هذه الفترة، وكثر الدسّ وظهر الاختلاف في متون الروايات، فكان يبلغ البعض من الشيعة حديثان مختلفان في مسألةٍ واحدةٍ، فكان الرواة يطلبون من أئمّة أهل البيت عليهم السلام أن يدلّوهم على مقياسٍ لاختيار الحديث الصحيح. فوردت عنهم عليهم السلام الأحاديث المعالجة للأخبار المتعارضة والتي عُرفت بالأخبار العلاجيّة في الأصول، قال زرارة: "سألت أبا جعفرٍ عليه السلام فقلت: جعلت فداك يأتي عنكم الخبران والحديثان المتعارضان فبأيهما آخذ؟ فقال عليه السلام: يا زرارة خذ بما اشتهر بين أصحابك، ودع الشاذّ النادر. فقلت: يا سيّدي إنّهما معاً مشهوران مأثوران عنكم. فقال: خذ بما يقول أعدلهما عندك وأوثقهما في نفسك. فقلت: إنّهما معاً عدلان مرضيّان موثّقان. فقال: أنظر ما وافق منهما العامّة فاتركه، وخذ بما خالف، فإنّ الحقّ فيما خالفهم. قلت: ربما كانوا موافقين لهم، أو مخالفين فكيف أصنع؟ قال: إذاً فخذ بما فيه الحائطة لدينك، واترك الآخر. قلت: إنّهما معاً موافقان للاحتياط، أو مخالفان له فكيف أصنع؟ فقال: إذاً فتخيّر أحدهما فتأخذ به، ودع الآخر"12.

وظهور الأخبار العلاجيّة الكثيرة في هذا الفترة دليلٌ على توسّع مدرسة أهل البيت عليهم السلام في الفقه، وكثرة النقل، وشياع الحديث عنهم، وانتشار فقه أهل البيت عليهم السلام في الأقطار، كالعراق وخراسان والريّ والحجاز واليمن. وهذه هي الظروف الطبيعية لظهور الدسّ والاختلاق والتزييف في الحديث.

4- اتسعت شقّة الخلاف بين المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة في كثيرٍ من المسائل الخلافيّة، بهدف تعكير الجوّ الفكريّ بين المسلمين، فيتاح للجهاز الحاكم أن يصيد في الماء العكر. وكان موقف أئمّة أهل البيت عليهم السلام حازماً وحكيماً، إذغضّوا الطرف كثيراً عن الخلاف في المسألة الفقهيّة، مجاراةً لفقه العامّة الرائج، وإذا خلوا بأصحابهم ذكروا لهم الوجه الحقّ، وأمروهم بالكتمان والسرّ ما وسعهم ذلك، وحتّى يقضي الله بما هو قاضٍ، وينقذ الأمّة من هؤلاء الغاصبين، وهذه هي التقيّة في الفقه الإسلاميّ.

5- تعيين موازين خاصّة للاجتهاد والاستنباط من قبل أئمّة أهل البيت عليهم السلام، فقد كان الرواة ينتقلون إلى مناطق بعيدةٍ، وتمسّ بهم الحاجة إلى معرفة حكمٍ من الأحكام الشرعيّة، ولا يجدون وسيلةً لسؤال الإمام عليه السلام، كما لا يجدون نصّاً في المورد، فوضع لهم أئمّة أهل البيت عليهم السلام قواعد خاصّة للاستنباط والاجتهاد: كالاستصحاب والبراءة، والاحتياط، والتخيير، وغيرها من القواعد الأصوليّة والفقهيّة، كقاعدة الطهارة، واليد، والإباحة، والحليّة، وغيرها ممّا يعين الفقيه على الاجتهاد والاستنباط.

وإذا صحّ أنّ المدرسة انتقلت من الكوفة إلى المدينة، أو إلى بغداد أو إلى طوس في هذا الفترة فقد كان لفترةٍ قصيرةٍ، وبصورةٍ غير كاملةٍ، وبقيت الكوفة محتفظةً بمكانتها حيناً طويلاً من هذا العصر.

الخلاصة
لقد مرّ على الفقه في مدرسة أهل البيت عليهم السلام مراحل مختلفة، من الصعب تحديدها تحديداً دقيقاً، ولكن يمكن حصرها على وجه التقريب في بعض المدارس الكبرى بحسب العصور.

1- مدرسة المدينة المنوّرة
وعصرها هو عصر الصحابة والتابعين لهم. فقد ظهر الفقه من حين ظهور المجتمع الإسلاميّ في المدينة المنوّرة، واستمرّت الحركة العلميّة والفقهيّة إلى حياة الإمام الصادق عليه السلام، فكانت المدينة المنوّرة هي المنطلق الأوّل للرسالة الإسلاميّة، والمدرسة الأولى للفقه الإسلاميّ، وكانت الوطن الأوّل لفقهاء الشيعة، من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.

لكن ملامح المدرسة الفقهيّة في المدينة المنوّرة كانت بدائيّة إلى حدٍّ ما، ولم تتبلور فيها المسائل الخلافيّة في الفقه بين مدرسة أهل البيت عليهم السلام ومدرسة الخلفاء.

2- مدرسة الكوفة
في أخريات حياة الإمام الصادق عليه السلام، انتقلت مدرسة الفقه الشيعيّ من المدينة إلى الكوفة، وبذلك بدأت حياةٌ فقهيّةٌ جديدةٌ في الكوفة اشتغل فيها الإمام في نشر المذهب الشيعيّ. وقد أدّى التجمّع والالتقاء بالإمام في الكوفة إلى أن يأخذ الجهاز العباسيّ الحاكم حذره منه، فخاف المنصور الدوانيقيّ أن يفتتن الناس بالإمام عليه السلام فطلبه إلى قربه في بغداد.

ملامح المدرسة
1- ظهرت ظاهرة التدوين من أيّام الإمام الباقر عليه السلام ونمت أيّام الإمام الصادق عليه السلام.
2- توسّعت حاجات المسلمين في هذا الوقت، وازدحم الناس على أبواب الفقهاء يطلبون منهم الرأي فيما استجدّ عليهم.
3- حدوث الاختلاف في نقل الروايات، فقد شاع نقل الحديث عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام في هذه الفترة، وكثر الدسّ وظهر الاختلاف في متون الروايات.
4- اتسعت شقّة الخلاف بين المذاهب الفقهيّة الإسلاميّة في كثيرٍ من المسائل الخلافيّة، بهدف تعكير الجوّ الفكريّ بين المسلمين، فيتاح للجهاز الحاكم أن يصيد في الماء العكر.
5- تعيين موازين خاصّة للاجتهاد والاستنباط من قبل أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

* علم الفقه, سلسلة مداخل العلوم , نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية


1- النجاشي (ت: 450 هـ): رجال النجاشي، مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرّسين، بقم المشرّفة ـ إيران، ط. الخامسة 1416 هـ، ذكر الطبقة الأولى، ص 4.
2- م. ن. ص 6.
3- الذهبيّ، (ت: 748 هـ)، ميزان الاعتدال، تحقيق علي محمّد البجاوي، منشورات دار المعرفة للطباعة والنشر- بيروت ـ لبنان، ط. الأولى 1382 هـ ج1 ص 6.
4- نقلاً عن الأمين(ت: 1371) ـ محسن، أعيان الشيعة، تحقيق حسن الأمين، دار التعارف للمطبوعات، بيروت ـ لبنان، ط. 1983م.، ج 1 ص 88.
5- الكليني: (ت: 329 هـ): الكافي، تصحيح وتعليق: علي أكبر الغفاري، دار الكتب الإسلاميّة، طهران ـ إيران، ط. الثالثة 1363 هـ ش. باب: مولد أبي عبد الله جعفر بن محمّدL، ج 1 ح 1 ص 472.
6- المفيد (ت: 413 هـ): الإرشاد، تحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لتحقيق التراث، منشورات دار المفيد للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت ـ لبنان، ط. الثانية 1414 هـ. ج 2 ص 179.
7- الطباطبائيّ ـ علي(ت: 1231 هـ): رياض المسائل، منشورات مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ط. الأولى 1412 هـ ج 1 المقدّمة ص 14 ـ 15.
8- راجع تاريخ الكوفة ص 282 ـ 395 نقلاً عن الطباطبائيّ ـ علي(ت: 1231 هـ): رياض المسائل، منشورات مؤسّسة النشر الإسلاميّ التابعة لجماعة المدرسين بقم المشرّفة، ط. الأولى 1412 هـ ج 1 المقدّمة ص 31.
9- نقلاً عن: الشهيد الثاني زين الدين بن علي(ت:965 هـ): شرح اللمعة، منشورات مكتبة الداوري، قم ـ إيران، ط. 1410 هـ ج 1 المقدّمة ص 32.
10- الميرزا النوريّ (ت: 1320 هـ): خاتمة مستدرك الوسائل، منشورات وتحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم ـ إيران ط. الأولى 1415 هـ ج 2 ص 27.
11- الميرزا النوريّ (ت: 1320 هـ): مستدرك الوسائل، منشورات وتحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم ـ إيران ط. الثانية 1498 هـ، باب: وجوب العمل بأحاديث النبيّ والأئمّة عليهم السلام الحديث 28 ج 17 ص 293.
12- الميرزا النوريّ (ت: 1320 هـ): مستدرك الوسائل، منشورات وتحقيق: مؤسّسة آل البيت عليهم السلام لإحياء التراث، قم ـ إيران ط. الثانية 1498 هـ، باب: وجوب الجمع بين الأحاديث المختلفة، ج 17 الحديث 2 ص 303.

2015-11-17