يتم التحميل...

الاستغفار والمراجعة

المهتدون

قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقرعليه السلام موصياً تلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَاسْتَرْجِعْ سَالِفَ الذُّنُوبِ بِشِدَّةِ النَّدَمِ وَكَثْرَةِ الاسْتِغْفَارِ، وَتَعَرَّضْ لِلرَّحْمَةِ وَعَفْوِ اللهِ بِحُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ، وَاسْتَعِنْ عَلَى حُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ وَالْمُنَاجَاةِ فِي الظُّلَم"

عدد الزوار: 70

 نصّ الوصية
• قال الإمام أبو جعفر مُحمد بن علي الباقرعليه السلام موصياً تلميذه النجيب جابر الجعفي: "وَاسْتَرْجِعْ سَالِفَ الذُّنُوبِ بِشِدَّةِ النَّدَمِ وَكَثْرَةِ الاسْتِغْفَارِ، وَتَعَرَّضْ لِلرَّحْمَةِ وَعَفْوِ اللهِ بِحُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ، وَاسْتَعِنْ عَلَى حُسْنِ الْمُرَاجَعَةِ بِخَالِصِ الدُّعَاءِ وَالْمُنَاجَاةِ فِي الظُّلَم"1.

تشريع الاستغفار
إنّ من أعظم ما شرّعه الله تعالى لنا: كثرة الاستغفار، وقد أمر الله تعالى نبيّه الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم بالاستغفار في مواضع كثيرة من كتابه، قال الله عزّ وجلّ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ2، فهذا خطابٌ لسيّد الذين عصمهم الله تعالى، مع أنّه كان يصوم حتى يقولون: لا يفطر، وكان يقوم الليل أكثره، وربما قام الليل كله، وكانت كل حياته صلى الله عليه وآله وسلم جهاداً في سبيل الله، ودعوة إلى الله، وابتلاء، وصبراً، ومع هذا كلّه، وللأهمية الكبيرة والمنزلة العظيمة التي يحظى بها الاستغفار، فإنّ الله تعالى خاطبه بقوله: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ3، وخاطبه جلَّ وعلا بقوله: ﴿وَاسْتَغْفِرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمً4، وخاطبه بقوله جلّ شأنه: ﴿فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ5.

وإنّ من تدبّر آيات الفرقان الحكيم يصبح على يقين أنّ كثرة الاستغفار تُعدّ من أعظم أسباب القوّة، فقد قال الله تعالى على لسان نبيّه هود عليه السلام: ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ6، وقال تعالى: ﴿وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ7.

الاستغفار بعد الطاعة
الاستغفار يكون - أيُّها الأحبّة - في كلّ حال، ليس الاستغفار خاصّة بحال المعصية كما يتصوّر الجهّال، كلا! بل الاستغفار يكون حتى في حال الطاعة، ولهذا فالله عزّ وجلّ أمر رسوله والمؤمنين أنْ يستغفروه وهم في حال التلبّس بالإحرام، والنسك، والخضوع لله جلَّ وعلا، فقال: ﴿ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ8.

فإذا أفاض الناس من عرفة مخبتين لله، ضاحين لمن أحرموا له، خالعين الدنيا كلّها، أمرهم الله تعالى بأن يستغفروا الله تعالى، وهكذا كان حال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، إذا انصرف من صلاته أكثر الخلق استغفاراً، فهو يستغفر الله تعالى عقب الطاعة!! ومطلوب من العبد أن يستغفر الله تعالى عقب كلّ طاعة؟ لأنّ هذه الطاعة التي يقوم بها العبد لا تخلو من تقصير، أو غفلة، أو سهو، أو تفريط، أو شيءٍ لا يُحيط به الإنسان، فيقول: أستغفر الله عمّا يكون في هذه العبادة من نقصٍ، أو خطأ، أو سهوٍ، أو تقصير.

ثم إنّ استغفارك عقب الطاعة إشعارٌ بأنّ هذه الطاعة شيءٌ قليل إلى جنب ما يجب لله الجليل عزّ وجلّ، وأنّ هذه الطاعة نفسها هي من فضله وامتنانه وإحسانه سبحانه وتعالى، فحينئذٍ يكون استغفار العبد كالداعي الذي يقول: ربِّي سامحني عن التقصير في أداء شكرك وحقّك، واعلم أنّ العبد قد يُداخله نوعٌ من العُجْبُ والاغترار بعمله، وهذا العُجب قد يُحبط العمل، فإذا استغفر الله عقب العبادة: معناه أنّ هذا العبد صاحب قلبٍ يريد أن يكون عارفاً بحقِّ الله جلَّ وعلا، عارفاً بتقصيره، معترفاً بعظيم جرمه، وهذا بإذن الله تعالى يكون وقايةً من كيد الشيطان الذي يُزيّن العجب والغرور للإنسان، فهذا من معاني استغفار المسلم عقب الطاعة، وورد عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قال: "طوبى لمن أخلص لله العبادة والدّعاء، ولم يشغل قلبه بما ترى عيناه"9.

تصفّح الأعمال
"يبدو أنّ الإمام الباقر عليه السلام، وبعد إشارته إلى الفضائل الإنسانيّة والمقامات التي جعلها الله تعالى للإنسان والسبُل التي توصله إلى تلك الفضائل والكمالات - كأنّه يُريد أن يقول عليه السلام: تصفّح صحيفة ما سلف من ذنوبك وحاول أثناء هذا التصفّح أن تستشعر ندماً شديداً وتستغفر الله كثيراً، ومن أجل أن تكون في معرض رحمة الله تعالى وعفوه حاول تغيير منهج حياتك والتوجّه نحو الله عزّ وجلّ، ولكي تُكلَّل جهودك بالنجاح في هذا الطريق، فاعمل على الاستعانة بالدعاء والمناجاة في غياهب الظلمات.

ولعلّ في تقارن ذر هذه الكلمات مع ليالي القدر المباركة وسيلة لحثّ المرء على تخصيص ساعة من وقته ليختلي إلى نفسه مراجعاً ماضيه ومقلّباً صفحاته ما أمكن، وليكن ذلك في ظلام الليل الدامس كي لا يُشغل فكرَه شيءٌ قطّ، فليستحضر في مخيّلته كلّ ما اقترفه - من زمان بلوغه إلى الآن - من معاصي وليسجّلها إن أمكن، فإذا استطاع المرء على الأقلّ أن يتذكّر بعض ذنوبه التي لا يرغب حتّى بتذكّرها من شدّة قبحها ويدوّنها فإنّ في ذلك فائدة عظيمة، لأنّ ذلك أبلغ في تجسيد قباحة أعماله وتصوير كثرة ذنوبه في عينه، ثمّ يسأل بعد ذلك نفسه السؤال التّالي: ما الذي كان بمقدوري صنعه من الصالحات تكفيراً عمّا بدر منّي لعلّ ذلك يتسبّب في غفران خطيئاتي ورفع درجاتي؟

فيُسجّل هذه الأعمال الصالحات في عمود آخر في مقابل الأوّل، فلعلّ من شأن هذا العمل أن يولّد في نفس المرء حالة من الندم الشديد، بالضبط كالرجل الثريّ الذي كان يملك ثروات ضخمة، وكان بإمكانه الانتفاع منها لجني ربح عظيم لكنّ النيران شبّت فيها دفعة واحدة، فما الذي سيكون عليه حالُه يا ترى؟! فإنّ مجرّد تخيّل الإنسان كيف أنّه لم ينتفع من رأس ماله كما ينبغي، بل إنّه قد فعل به ما أدّى إلى اشتعال النيران فيه واحتراقه هو نفسه فيها - نقول إنّ تخيّل هذه الحال يولّد في نفس الإنسان منتهى حالة الانقطاع والندم ويبعث في نفسه الاستعداد للتوبة إلى الله توبة نصوحاً، فالتوبة تستدعي ندم المرء على ماضيه بصورة تدفعه إلى اتّخاذ قرار حاسم بعدم تكرار هذه الأفعال القبيحة ثانيةً، وبالاستعاضة عنها بأعمال صالحة"10.

حلاوة المناجاة تُشعِر بمرارة الذنوب
"لكنّ المشكلة تكمن في أنّ المذنب قد تعوّد على الذنوب وذاق حلاوة المعصية فلا يستطيع ببساطة أن يتّخذ قراراً بتركها جميعاً. بالطبع كلّما حاول التفكير أكثر بما فرّط به من رأس مال وأمعن في تجسيد ما يشكوه من حالة البؤس والشقاء زاد لذلك ندمه وترسّخ عزمه على تغيير مسيرة حياته، وهنا كأنّ إمامنا الباقر عليه السلام يقول: "من أجل أن تتمكّن من تنفيذ هذا القرار على أرض الواقع وتنجح في تغيير مسيرة حياتك فعليك بالدعاء والمناجاة في الظلام"! فعندما يُصمّم المرء على عدم العودة إلى ارتكاب المعاصي ولكي يأمن من خداع الشيطان له مرّة أخرى، فما عليه إلاّ الاستعانة بالله ومدّ يد الحاجة والمسألة، والتضرّع إليه عزّ وجلّ.

فليس من السهل أن يُقرّر المرء تغيير مسير حياته وترك كلّ خطيئاته، وانتزاع قلبه من جميع تعلّقاته وأن يوجّه وجهه لله وحده، فهو بحاجة إلى مَن يُساعده على ذلك، وإنّه لا بدّ أن يتذوّق من اللذّة ما يصرفه عن لذّة الذنب، فنحن نقرأ في المناجاة الشعبانيّة التي هي أفضل مناجاة وردت عن أهل البيت عليهم السلام : "إلهي لم يكن لي حولٌ فأنتقل به عن معصيتك إلاّ في وقت أيقظْتَني لمحبّتك"11، أي: لم تكن لي قدرة على الكفّ عن المعصية إلاّ عندما أذقتني محبّتَك وعرّفتني بها. فالحقيقة هي أنّ المرء ما لم يذق لذّة أسمى وأفضل، فإنّه لا يكفّ عن اللذّة الأدنى، والإنسان تارةً يظفر بهذه اللذّة الأسمى بشكل فوريّ ونقداً، وتارةً أخرى تكون أمراً مستقبليّاً يتعيّن على المرء التفكير به، فأمّا الشكل الثاني فلا يكون له في العادة مفعول يُذكر، فالإنسان عادةً ما يميل إلى اللذّة الملموسة المعطاة بشكل نقديّ، ومن هنا فإنّه إذا أذاق الله الإنسانَ قبل يوم القيامة حلاوةً آنيّة تفقد معها كافّة أشكال الحلاوة الأخرى طعمها في ذوقه، وأراه جمالاً تتلاشى في مقابله أنوار كلّ ألوان الجمال، فسيكون من السهل عليه في هذه الحالة أن يكفّ عن المعصية. ولهذا كأنّ الإمام عليه السلام يريد أن يقول: "من أجل أن تتوب عن السبيل الخاطئة توبة نصوحاً وتهتدي إلى جادّة الصواب وتستمرّ فيها فاستعن بالدعاء، المناجاة في الظُّلَم"، فإذا منح الله تعالى أحداً توفيق الأنس به وذاق الأخير حلاوة مناجاة ربّه، فسيُقلع عن اقتراف الذنوب بكلّ سهولة ولن تعود للخطيئة جاذبيّة في نظره. فالمرحوم آية الله بهجت يقول: "لو علم ملوك العالم ما في الصلاة من لذّة لتركوا لذّات سلطانهم وهرعوا نحو الصلاة". كما ونُقل عن المرحوم العلاّمة القاضي (رضوان الله تعالى عليه) قوله أيضاً: " لو لم تكن في الجنّة صلاة فعلامَ أطلبُ الجنّة إذن "؟ إذن يتعيّن علينا نحن كذلك أن نُبعد عن أنفسنا موانع الأنس بالله جلّ وعلا ومناجاته."12

حبّ الدنيا، يُعيق حبّ الله
إنّ ما يمنع المرء من تذوّق حبّ الله هو التعلّقات الدنيويّة. فقد جاء في حديث المعراج عن قول الله تبارك وتعالى لنبيّه صلى الله عليه وآله وسلم: "يا أحمد! لو صلّى العبد صلاة أهل السماء والأرض و... ثمّ أرى في قلبه من حبّ الدنيا ذرّة أو سُمعَتها أو رئاستها أو صيتها أو زينتها لا يجاورني في داري ولأَنزِعَنّ من قلبه محبّتي (ولأُظلِمَنّ قلبَه حتّى ينساني ولا أُذيقه حلاوة محبّتي)"13.

وإنّ لحبّ الدنيا مراتب، فبعض مراتبه مباح لا إشكال فيه، وهو عندما لا يزاحِم التكاليف الشرعيّة ولا يستلزم فعل الحرام. لكنّ نفس هذه المرتبة قد تحجب المرء عن الأمور الأفضل منها. أمّا المراتب الأشدّ من حبّ الدنيا فقد تجرّ الإنسان شيئاً فشيئاً إلى حيث عدم الإباء عن ارتكاب المحرّم، والاستعداد لتضييع حقوق الآخرين، واستساغة التطاول على بيت المال، وإشاعة الفتن، وعدم التواني عن ارتكاب آلاف الكبائر من أجل التشبّث بضعة أيّام أخرى بكرسيّ الرئاسة. ومن أجل الحيلولة دون وقوعنا في هذه الورطة يتحتّم علينا قمع ميلنا نحو الدنيا كلّما أحسسنا بتزايد في هذا الميل"14.

السبيل لعلاج حبّ الدنيا
"فإذا أحسّ المرء بازدياد نزوع نفسه نحو المال فعليه أن يُنفق في سبيل الله من أمواله التي كسبها بعناء: ﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ15، وإنّ أرضيّة الإنفاق في هذه الأيّام مهيَّئة بوفرة. فإن لم ينتهز المرء هذه الفرصة في حدود ما يُسّر له فهو خاسر.

فإن كانت الميول الحيوانيّة والشهوانيّة للإنسان جامحة فلا بدّ أن يحدّ من انتفاعه المحلّل منها كي يحول دون تجرّؤ نفسه على طلب الحرام. فعلى المرء بغية التخلّص من النظرة المحرّمة أن يتغاضى حتّى عن بعض النظرات المحلّلة أيضاً. فهل من الضروريّ يا ترى أن يمدّ الإنسان عينه إلى كلّ شيء؟! فينبغي له أن يغضّ طرفه عن كلّ موضع يتوقّع أن ينجرّ إلى الحرام من خلال النظر إليه"16.

تحذير للإخوة من طلبة العلوم الدينيّة
"أمّا نحن طلبة العلوم الدينيّة فتقع على عاتقنا مسؤوليّة أعظم، إذ يتعيّن علينا إنذار الآخرين من هذه الأمور وتعريفهم بالمعارف الدينيّة والأخلاق الإسلاميّة وردع الناس عن التعلّق بالدنيا. فإنْ أصابنا نحن بعض الدنس - لا قدّر الله - فإنّنا سنكون قد ارتكبنا ذنباً مضاعفاً أوّلاً، ولن يعود حديثنا ذا أثر على الآخرين ثانياً، وهنا تكمن التفاتة لا بأس أن أوضّحها من خلال الاستشهاد بحديث شريف. وأقول من باب المقدّمة: إنّ كِبَر أو صِغَر الذنوب الاجتماعيّة يعتمد إلى حدٍّ كبير على المكانة الاجتماعيّة التي يتمتّع بها الشخص. فكلّما زادت حساسية مكانة المرء في المجتمع زاد ثوابه على أعماله الصالحة وتضاعف إثمه وعقابه على ارتكاب المعصية. يقول القرآن الكريم في هذا الصدد مخاطِباً نساء النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: ﴿يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ17، فإن اتّقيتُنّ الله كان ثوابكنّ ضعف ثواب غيركنّ، وإذا عصيتُنّه فإنّ إثمكنّ أعظم أيضاً. ويقول الإمام الصادق عليه السلام في هذا الباب: "يُغفَر للجاهل سبعون ذنباً قبل أن يُغفَر للعالِم ذنب واحد"18.

فالذين لم يوفَّقوا إلى الإحاطة بمعارف الدين ولم تَبلغهم علومُه يُغفَر لهم بسهولة إذا ارتكبوا المعصية. أمّا الذي أمضى عمره مع الكتاب والسنّة ونبَت لحمه وصَلُب عوده من بيت المال ومن بركات أهل البيت عليهم السلام فإنّ ذنبه لا يساوي ذنب غيره، وكلّما زاد التفات الناس إليه واهتمامهم به تضاعفت حساسية أفكاره وأعماله بالتبع. يروي إمامنا جعفر الصادق عليه السلام حديثاً قدسيّاً في هذا الصدد يقول فيه: "أوحى الله عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام: لا تجعل بيني وبينك عالِماً مفتوناً بالدنيا فيصدَّك عن طريق محبّتي، فإنّ أولـئك قُطّاع طريق عبادي المريدين. إنّ أدنى ما أنا صانع بهم أنْ أنزع حلاوة مناجاتي من قلوبهم"19.

فسواءٌ شِئنا أم أبينا فإنّ هناك وسائطَ يكونون بين العباد وربّهم، ذلك أنّ عامّة الناس إنّما يأخذون دينهم من العلماء، والعلماء يأخذون علمهم من الأئمّة والأنبياء عليهم السلام ، ولذا يُشكّل هؤلاء الوسائط بين الله وعباده، وفي هذا الحديث يعظنا الباري عزّ وجلّ بضرورة توخّي الدقّة في اختيارنا للوسائط والنظر فيمن نأخذ منهم دينَنا، فحذارِ من أن تُوسِّطوا بيني وبينكم عالِماً مُحبّاً للدنيا، لأنّ أمثال هؤلاء العلماء إنّما هم قُطّاع طرق يصدّون عبادي عن التوجّه إليّ، فالارتباط بمثل هؤلاء العلماء يوجب الغفلة عن ذكر الله تعالى، لأنّ ما سيُشاهده الناس في سيرة هؤلاء هو حبّ الدنيا والتعلّق بها والشهوة إلى المال والمنصب والشهرة. والناس بالطبع سيتعلّمون هذه الأمور منهم ويسيرون في إثرهم على نفس الدرب، فإنْ حدث ذلك، فإنّ أقلّ ما أنا صانع بهؤلاء هو أنّني سأسلبُهم محبّتي (فإمّا محبّتي وإمّا حبّ الدنيا) وأنزع منهم - تبعاً لذلك - حلاوة مناجاتي"20.

حلاوة المناجاة
وبناءً عليه فإنّ على من يُفتّش عن حلاوة المناجاة مع الله تعالى أن يحدّ من تعلّقاته الدنيويّة. بل عليه أن يغضّ طرفه حتّى عن الأمور غير المحرّمة كي لا تحلّ محلّ حبّ الله عزّ وجلّ، ذلك أنّ القرآن الكريم يقول: ﴿مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ21، أي: لا يمكن الجمع بين حبّين متضادّين في قلب واحد. فإنْ كان أحد الحبّين هو بمثابة شعاع للحبّ الآخر، كحبّ أهل البيت عليهم السلام بالنسبة لحبّ الله تعالى، فلا تنافي بينهما حينئذٍ، ذلك أنّ الأوّل هو شعاع نفس ذاك المنبع وهو ناشئ من المصدر نفسه.

أمّا إذا أردتَّ أن يُشرق حبّ الله في قلبك فعليك أن تُخرج حبّ الدنيا منه، فيتعيّن عليك في بادئ الأمر أن تُحاول جهدك أن لا تتذوّق لذّة المعصية، لأنّ المرء إذا تذوّق الذنب فسيُحبّه، فالإنسان يُحبّ ما يلتذّ به، ومن هنا فإنّ ترك المرء للذنب يُساعد على عدم التعلّق به، ذلك أنّه لم يذق طعمه. وفي مثل هذه الحالة فإنّه سيوفَّق إلى المناجاة والدعاء والأنس مع الله جلّ وعلا، وكما قال الإمام الباقر عليه السلام فإنّ بإمكانه أن يوفّق إلى التوبة عن طريق الدعاء والمناجاة في ظلمات الليل، ففي مثل هذه الظروف يودّ المرء لو يُناجي محبوبه وهو مختَلٍ به ولا تعود المناجاة والدعاء ثقيلين بالنسبة له. فعندما يُحبّ المرء أحداً حبّاً عظيماً فإنّه يرغب أن يراه بمفرده ويتجاذب معه أطراف الحديث، وأن يسمع كلامه، ويُطيل النظر إليه، فعندما يتذوّق العبد حلاوة المناجاة يودِع الله تعالى في قلبه جاذبيّة ويجذبه نحوه بصورة يودّ لو طالت هذه المناجاة وهذه الحالة سبعين سنة.

فما أحسن أن نعمل في الليالي بتوصيات الإمام الباقر عليه السلام وأن نبدأ من حيث يقول صلى الله عليه وآله وسلم: "استرجع سالف الذنوب"، أي: أن نتصفّح سجلّ ذنوبنا ونُفكّر فيما فعلنا من قبائح وما ابتُلينا به من مآسي بسبب استمرار تبعات الذنب والتفريط بالعبادات وأعمال الخير. فللننظر كيف فرّطنا برؤوس أموالنا وكيف نقبع اليوم - حتّى ولو كنّا لا نُدرك ذلك - في وسط نار جهنّم وليس لأيّ أحد إلاّ الله أن يهبّ لنجدتنا ويُغيثنا. فيوم القيامة هو ذلك اليوم الذي سيفرّ فيه كلّ امرئ من الآخر وسيتورّط كلّ امرئ بتبعات أعماله: ﴿وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ22، وسينشغل كلّ شخص بنفسه: ﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ23، فإنْ حاول الإنسان تجسيد هذه الوقائع في مخيّلته فستحصل عنده حالة من الندم الحقيقيّ وسيعزم جرّاء ذلك على ترك المعصية وتدارك الماضي، وعندها سيهبّ الله لنصرته ويمنحه حال مناجاته ويُذيقه حلاوة محبّته، فإنْ تذوّق العبد حلاوة مناجاة ربّه فسينجح في جبران ماضيه ويفيد إفادةً قصوى من مستقبله"24.

قال مولانا الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "إذا أحبّ الله عبداً ألهمه حسن العبادة"25.

* كتاب المهتدون، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج75، ص164، باب وصايا الباقر عليه السلام.
2- سورة مُحمد، الآية 19.
3- سورة مُحمد، الآية 19.
4- سورة النساء، الآية 106.
5- سورة غافر، الآية 55.
6- سورة هود، الآية 52.
7- سورة هود، الآية 3.
8- سورة البقرة، الآية، 199.
9- الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 16.
10- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 21 آب، 2011م.
11- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج91، ص 98، باب 32.
12- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 21 آب، 2011م.
13- العلامة النوري، مستدرك‏ الوسائل، ج12، ص 36.
14- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 21 آب، 2011م.
15- سورة آل عمران، الآية 92.
16- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 21 آب، 2011م.
17- سورة الأحزاب، الآية 32.
18- العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج2، ص27.
19- الشيخ الكليني، الكافي، ج1، ص 46.
20- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 21 آب، 2011م.
21- سورة الأحزاب، الآية 4.
22- سورة البقرة، الآية 48.
23- سورة عبس، الآية 37.
24- من محاضرة لسماحة آية الله الشيخ مصباح اليزديّ ألقاها في مكتب الإمام الخامنئي في قم بتاريخ 21 آب، 2011م.
25- الآمدي التميمي، غرر الحكم و درر الكلم، الفصل العاشر في عبادة الله، الحكمة 3935.

2016-04-06