يتم التحميل...

اليأس، ماهيته، آثاره وسبل معالجته

دراسات أخلاقية::الأخلاق المذمومة

يمثّل الوجود بأرضه وسماواته، وما يليهنّ من جنان لا نهاية لها، فرصةً إلهيّةً ممتزجةً برحمة مطلقة ورضوان وعفو وغفران. فالحياة الدّنيا ـ بالرغم من ضيقها ومحدوديّتها إذا ما قُورِنت بما في السّماء

عدد الزوار: 31

تمهيد
يمثّل الوجود بأرضه وسماواته، وما يليهنّ من جنان لا نهاية لها، فرصةً إلهيّةً ممتزجةً برحمة مطلقة ورضوان وعفو وغفران. فالحياة الدّنيا ـ بالرغم من ضيقها ومحدوديّتها إذا ما قُورِنت بما في السّماء ـ فيها من النّعم والإمكانات ما لا يُحصى. ولو تفكّر الإنسان قليلًا فيما أعدّ الله له من خير وكمال وسعادة وجمال، لأشرق قلبه بفرحٍ وسرورٍ ينعدم عنده كل همّ وغمّ! فلماذا يصل بعض النّاس إلى حالة اليأس من فيض الله العميم وروحه المطلق؟ وكيف تصبح هذه الحالة سمة بارزة في شخصيّتهم، بحيث لا يظهر عليها أيّ بعد من أبعاد وعود الله العظيمة؟

من هي الشّخصيّة اليائسة؟
لا شكّ بأنّ اليأس الذي عُدّ من الكبائر ومن الصّفات النّفسيّة القبيحة، بل ومن الأمراض الباطنيّة والقلبيّة المهلكة، هو اليأس من رحمة الله ومن روحه. أمّا اليأس من الدّنيا الفانية أو ممّا في أيدي النّاس ـ كما ورد في العديد من الأحاديث الشّريفة ـ فهو يأسٌ ممدوحٌ، لأنّه موافق للفطرة الإلهيّة التي تنفر من مطلق النّقص وتبغضه. ولهذا، وجدنا عبارة اليأس مستعملة بحقّ الأنبياء الذين هم أكمل خلق الله تعالى كما في قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ1، بل إنّ الله تعالى يدعونا بطريقة غير مباشرة إلى هذا اليأس، كما في قوله تعالى: ﴿أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاء اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا2، لأنّ اليأس من الفقير والعاجز أمرٌ ينسجم مع الفطرة التي فطر الله النّاس عليها جميعًا.

واليأس حالة وجدانيّة تتلازم مع الإعراض عن الميؤوس منه، وعدم السّعي نحوه أو طلبه، مع ما يصاحب ذلك من حزن أو غمّ في النّفس، وتقاعس وتكاسل في الأعضاء والجوارح.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "فلعلّ المقصود (بالطّمع) هو الأمل مع عدم رؤية العمل، وعدم الاتّكال عليه، وهذا من مقامات العارفين بالله الذين تركوا أنفسهم وأعمالهم وهاجروا من منزل كيانهم وبين الأنا والأنانية، وداسوا على رأس مملكة وجودهم، وتحرّروا من كلا النشأتين فتطلّعت عيونهم للحبيب وعميت عن نفوسهم وأعمالهم، فأحيت تجلّيات الرّحمة الإلهيّة قلوبهم، فكسروا قدم السير والسلوك، ومدّوا أيدي طمعهم إلى الحقّ تعالى ورحمته، وانقطعوا عن كل ما سواه وتعلّقوا به.

وبناءً على هذا التفسير، فإنّ اليأس هنا ـ وهو ضدّ الطّمع... فيكون عبارة عن اليأس من الرّحمة، سواء أكان مطيعاً أم عاصياً، أو أن يكون متّكلاً على طاعته مؤمّلاً ما يرجو من عمله، فهذه الحال هي أيضا ـ في مسلك أهل المعرفة ومشرب العرفان الأسنى ـ من مصاديق اليأس من الرّحمة الإلهيّة وتحديد سعتها... وكون اليأس من جنود الجهل ومخالفًا لمقتضيات الفطرة السّليمة، فهو من الواضحات، لأنّ... التّوجّه إلى "الأنا" والإقبال على الأنانيّة وفروعها ، ومنها النّظر إلى العمل ، هو من الأخطاء الجهليّة للفطرة المحجوبة التي تتميّز بالعجب وحبّ النّفس واتّباع هواها"3.

والمهم أن نتعرّف على خطورة هذه الحالة على ديننا وآخرتنا، بل حتّى على دنيانا التي ينبغي أن نتزوّد منها بالمقدار اللازم لآخرتنا. ومن لم يتزوّد من دنياه لآخرته أوشك على التوقّف وقطع الطّريق على نفسه للوصول إلى الله تعالى، ومن كلام لأمير المؤمنين عليه السلام: "فَخُذُوا مِنْ مَمَرِّكُمْ لِمَقَرِّكُم‏"4.

ما هي آثار اليأس ونتائجه؟
يذكر الإمام الخمينيّ قدس سره في معرض حديثه عن جنود الجهل، الذي هو رأس كلّ شرّ، عدّة آثار لمثل هذه الخصلة المدمّرة.

1- التّقاعس عن العمل والخروج عن العبوديّة
يقول الإمام قدس سره: "ونتيجة هذا اليأس والقنوط والحرمان، التّقاعس عن العمل وفقدان الجدّ والاجتهاد، وانقطاع حبل العبوديّة، وإطلاق لجام العبد"5.

2- صعوبة الإصلاح
ويقول الإمام قدس سره: "واعلم بأنّ اليأس من رحمة الحقّ من أعظم الذنوب، ولا أظنّ أنّ هناك ذنباً أسوأ وأشدّ تأثيراً في النفس من القنوط من رحمة الله، فإنّ الظّلام الدّامس إذا غشي قلب الإنسان اليائس من الرّحمة الإلهيّة، لما أمكن إصلاحه، ولتحوَّل إلى طاغية، لا يوجد سبيل للهيمنة عليه"6.

3- الابتعاد عن الحقّ
ولو تأمّلنا في كلّ واحدة من هذه الآثار لوجدناها كفيلةً بإخراج الإنسان عن صراط الله المستقيم. ولهذا، قال الإمام بأنّنا قد لا نجد خصلةً كاليأس من حيث إبعاد الإنسان عن الحقّ تعالى. وقد قيل بأنّ هذه الحالة هي غاية ما يصبو إليه إبليس عدوّ الإنسان. وليس غريباً أن يكون إبليس أوّل المتّصفين بهذه الصّفة الخبيثة. وسوف تتّضح أكثر وخامة هذه الحالة عند الحديث عن أسبابها، ويتكشّف كلام الإمام عن العديد من الدلالات المفيدة.

يقول الإمام قدس سره: "وهذه حال قلّما تجد نظيراً لها في إبعاد العبد الشقيّ عن حضرة مولاه الحقّ تعالى، وطرده عن مقامه القدسيّ، وحرمانه من رحمته الواسعة"7.

من أين ينشأ اليأس؟
1- الجهل بالله والكفر به
إنّ اليأس ـ كما مرّ ـ يترافق مع حالة من الإحجام والابتعاد، لكن ليس كلّ إحجام أو ترك يأسًا، فالخوف من الله تعالى يستلزم أن يتورّع الإنسان عن الكثير من الأمور في هذه الحياة الدّنيا، ولهذا كان لا بدّ من معرفة الفارق بين الخوف من الله واليأس منه.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "اعلم أنّ مصدر كلٍّ من الخوف من الحقّ تعالى، واليأس والقنوط من رحمته، مختلفان وآثارهما وثمارهما متمايزة أيضاً. فالخوف ناتجٌ من تجلّي جلال الحقّ ـ جلّ جلاله ـ وعظمته وكبريائه، أو من التّفكّر في شدّة بأسه ودقّة حسابه، ووعيده بالعذاب والعقاب، أو من رؤية العبد لنقصه وتقصيره في القيام بالأمر (الإلهيّ). ولا ينافي أيّ من هذه الأمور الرّجاء والثّقة بالرّحمة. وثمرة الخوف من الله الاجتهاد في القيام بأمر الله وتمام المواظبة على طاعته... أمّا القنوط واليأس من رحمة الحقّ تعالى فهو ناتج من تحديد وتقييد القانط للرّحمة الإلهيّة، وتوهّمه أنّ الغفران والعفو الإلهيّ أضيق من أن يشمل وجوده الذي لا قيمة له أساسًا. وهذا القنوط من أكبر الكبائر، بل هو إلحادٌ بأسماء الله، وباطنه كفرٌ بالله العظيم وجهلٌ بالمقام المقدّس للحقّ تعالى وحضراته الأسمائيّة والصّفاتيّة والأفعاليّة"8.

إنّ الشرّ الذي أشرنا إليه، كعامل لإبقاء الجهل والتّمسّك به لتبرير حالة اليأس، ليس سوى الكفر، ولهذا لا ييأس من رحمة الله إلّا الكافر، كما قال تعالى: ﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ9.

فالكفر رفضٌ متعمّد للفرص الإلهيّة والعطاءات الربّانيّة. وإنّما يتمسّك الكافر بالمقولات الجهليّة والمغالطات العقائديّة ويصرّ على توصيف ربّه بصفات باطلة غير حقّانيّة من أجل تبرير إعراضه المستمرّ عن تلك الفرص العظيمة.

ولو تأمّلنا في حقيقة الأمر، ونظرنا إلى أحوالنا وما نحن عليه من حرمان، لربّما قطعنا بأنّه لا يسلم أحدٌ منّا من اليأس من روح الله. هذا الرّوح الذي يظهر في عالم الطّبيعة بصورة الهداية والرّحمة التي لا حدّ لها والفرص اللامتناهية والإمكانات التي لا تُعدّ ولا تُحصى.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "وهذا اليأس هو في الواقع نتيجة لتحديد رحمة الله، وهو ما يستلزم التّحديد في الأسماء والصّفات، بل وفي الذّات المقدّسة، تعالى الله عمّا يقول الظّالمون علوًّا كبيرًا"10.

2- احتجاب الفطرة
والعامل الآخر الذي يشارك في ترسيخ حالة اليأس في قلب العبد هو ما عبّر الإمام عنه مرارًا باحتجاب الفطرة، فإنّ "الفطرة (كما يقول الإمام) تدعو العقل إلى الكامل المطلق والرّحمة الواسعة على الإطلاق، فإنّها توصله إلى الرّجاء الكامل، وإذا احتجبت الفطرة عن نورانيّتها الأصليّة حُجبت عن الحقّ تعالى وكمالاته الذّاتيّة والصّفاتيّة وسعة رحمة ذاته المقدّسة، وقد يصل الاحتجاب أحيانًا درجة اليأس من رحمة الحقّ تعالى"11.

ويقول قدس سره: "وللعقل ـ بحسب فطرته الأصليّة السّليمة ـ معرفةٌ فطريةٌ بالحقّ تعالى، لأنّه غير محتجبٍ بحسب هذه الفطرة الذّاتيّة المخمّرة، إنّ الحجاب يتولّد من التّوجّه إلى الطّبيعة، وهي الشّجرة الخبيثة. وهي في عالم التّنزّل تلك الشّجرة المنهيّ عنها. وإذا لم يحجب الإنسان نفسه عن الحقّ تعالى بالتّوجّه إلى شجرة الطّبيعة الخبيثة، تجلّت فيه بهذا الصّفاء الباطنيّ انعكاسة حضرات الأسماء دون تحديد أو تقييد، وهذا التّجلّي يثمر التعلّق القلبيّ، والأنس والأمل، وهذا هو في الواقع الرّجاء الوثيق والأمل المستقر.

أمّا إذا توجّه إلى الشّجرة الخبيثة المنهيّ عنها، حصل عنده ـ بمقدار هذا التّوجّه ـ تقييدٌ وتحديدٌ في الأسماء والصّفات والأفعال الإلهيّة، وبالتّالي أصابه الجهل بسعة الرّحمة الإلهيّة. إلى أن يصل به الحال (مع اشتداد التّوجّه هذا) إلى الخروج بالكامل عن الفطرة، وغلبة أحكام الحجاب عليه، فتستولي الكدورات والظّلمة، على مرآة قلبه إلى حدّ حرمانه من عوالم الغيب وتجلّيات الأسماء والأفعال الإلهيّة، فيحتجب عن انعكاس التّجليات الرّحمانية، ويغلب عليه حكم اليأس والقنوط إلى درجة يعزل نفسه معها عن رحمة الحقّ تعالى الواسعة، وهذه هي غاية الخذلان، نعوذ بالله منه"12.

فالفطرة تطلب الكمال والخير، وتندفع نحوهما بكلّ شوق. وعندما يضعف هذا الاشتياق فينا ويقلّ الحماس والاندفاع نحو الأمور المعنويّة التي هي مظاهر الكمال في العالم، فهذا يعني أنّ فطرتنا قد أُسدل عليها أستار الحجب المختلفة. وأسوأ تلك الحجب ضعف العقل فينا وعدم قدرتنا على تمييز الكمال الواقعيّ عمّا عداه.

3- الشيطان
ففي بداية الأمر يكون الجهل بالله تعالى طبيعيًّا ومتوقّعًا نتيجة كون الإنسان في بدء نشوئه مخلوقًا طبيعيًّا صرفًا، وتكون الفطرة فيه على نحو القوّة لا الفعليّة والتّحقّق، وتكون التّوجّهات المعنويّة فيه كامنة وعلى نحو الاستعداد الصّرف، ولهذا نجد الأطفال سريعي اليأس وتعرض عليهم حالة القنوط عند أدنى سبب أو لا سبب، فيعلو صراخهم ويملأ الأرجاء بكاؤهم. لكنّ الخطأ الكبير قد يقع عندما لا يستجيب هذا الإنسان لنداء العقل ونوره الذي ينوّر مملكة الإنسان (وغالباً ما يكون هذا قبل سنّ البلوغ). فهذا النّور الإلهيّ يتّصل بنفسه ويسري إلى قلبه ليعرّفه على ربّه بما أراه الله من سعة رحمته. فلو رضي بالجهل عندها وركن إليه بالرّغم من ترادف الآلاء وترائي الآيات ولم يسعَ لدفعه بأدنى تفكّر، لسقط في الجهل المذموم... هذا الجهل الذي أشارت إليه النّصوص الشّريفة وعدّته منشأ كلّ شرّ.

فمع تواتر النّعم وتضافر الآلاء وامتلاء الأركان بالأسماء، كيف نبرّر للإنسان البقاء على الجهل الأوّل؟ اللهمّ، إلّا أن يكون هذا الجاهل ذا نفسٍ خبيثة وسريرةٍ شرّيرة. ففي مثل هذه الحالة الجهليّة الكفريّة، يدخل الشّيطان لبثّ حالة اليأس والقنوط في نفس الإنسان.

ولننظر كيف يخطّط هذا اللعين، وما هي المراحل التي يقطعها مع الإنسان الغافل حتّى يوقعه في هذه الموبقة المهلكة.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "إنّ من مكائد إبليس الخطيرة والدّقيقة، أن يوقع العبد في الغرور أوّلاً، ويجعله بذلك مطلق العنان (في نقض آداب العبوديّة). فينقله بذلك من المعاصي الصّغيرة إلى المعاصي الكبيرة، ومنها إلى الكبائر والموبقات. وبعد أن يلعب به مدّة بهذه الكيفيّة ويغرقه في بحر الغرور بوهم رجاء الرّحمة الإلهيّة ينقله في النّهاية إلى مستنقع القنوط واليأس من رحمة الله، ويقول له: لقد فاتك القطار فلا أمل في إصلاح أمرك، وذلك إذا رأى فيه بقيّة نور يمكن أن تهديه إلى التّوبة والإنابة. وهذه المكيدة الشّيطانيّة الخبيثة هي التي تجعل العبد يُعرض عن أن يطرق باب بيت الله، وتبعد يده عن التّمسّك بأذيال الرّحمة الإلهيّة، وهذا يُعدّ منشأ للكثير من الدّمار والمفاسد التي لا تُحصى، فضرر هؤلاء الأشخاص على أنفسهم وعلى غيرهم أكثر من ضرر أي شخصٍ آخر. وكلّ هذا هو نتيجة الوقوع في أعماق الجهل ومنتهى الشّقاوة"13.

4- سوء الظنّ بالله
"إنّ الرّجاء من الأمور الفطريّة، في حين أنّ القنوط ناتجٌ عن الاحتجاب عن الفطرة المخمّرة، فهو خلاف ما تقتضيه هذه الفطرة. ومبدأ الرّجاء حسن الظنّ بالله تعالى، في حين أنّ مصدر القنوط من رحمة الله، هو سوء الظنّ بذاته المقدّسة جلّ وعلا. وإن كان مصدر حسن الظنّ العلم بسعة الرّحمة الإلهيّة، والإيمان بالكمال الأسمائي والصّفاتي الفعليّ، ومصدر سوء الظنّ الجهل بذلك. فهما يرجعان، بالتّالي، إلى معرفة الذّات المقدّسة، والجهل بها"14.

5- حبّ الدّنيا
ولا يخفى أنّ حبّ الدّنيا يتوسّط كلّ هذه العوامل فيقوم بتغذيتها. فلولا حبّ الدّنيا لما وجد الشّيطان سبيلًا إلى قلب الإنسان لإلقاء الوساوس ولولا حبّ الدّنيا لما عمي بصر الإنسان عن كلّ هذه النّعم والعطاءات الربّانيّة، ولولا حبّ الدّنيا لما توجّه هذا الإنسان مندفعًا نحو المعاصي والذّنوب.

لهذا، يقول الإمام قدس سره: "إذاً، كلّما نظرتَ إلى هذه الدّنيا بعين المحبّة والتّعظيم، وتعلّق قلبك بها، ازدادت حاجتك بحسب درجات حبّك لها، وبان الفقر في باطنك وعلى ظاهرك، وتشتّت أمورك واضطربت، وتزلزل قلبك، واستولى عليه الخوف والهمّ، ولا تجري أمورك كما تشتهي، وتكثر تمنّياتك ويزداد جشعك، ويغلبك الغمّ والتّحسّر، ويتمكّن اليأس من قلبك والحيرة، كما وردت الإشارة إلى بعض ذلك في الحديث"15.

كيف نواجه اليأس ونتخلّص منه؟
ويُعلم بما مرّ - عليك أيّها القارئ العزيز - كيف يمكن مواجهة هذه الحالة المهلكة، فمن عرف الأسباب هان عليه أمر الجواب. وفي منع حصول تلك العوامل والأسباب تكمن المجاهدة الحقيقيّة والتّزكية المطلوبة التي لا بدّ منها في هذه الحياة الدّنيا.

1- المعرفة
علاج هذا المرض المهلك هو بالمعرفة وفي إيقاظ الفطرة، وللمعرفة دورٌ كبيرٌ في هذه اليقظة.

يقول الإمام الخميني قدس سره: "ومن المحتمل ـ يا عزيزي ـ أن يكون الأنس بهذه المعاني صعبًا على النّفس في بداية الأمر، وتزيد صعوبته عليها بالوساوس الشّيطانيّة والنّفسيّة، التي تسعى لبعث اليأس في الإنسان من إمكانيّة تحقيق تلك المعاني، وتصوّر أنّ سلوك طريق الآخرة والسّلوك إلى الله أمرٌ عظيمٌ وشاقّ.

فتقول له: إن هذه المعاني الخاصة بالعظماء فلا تناسبنا أبداً، وبل تسعى أحيانًا إلى جعله ينفر من هذه المعاني، لكي تصرفه عنها بأيّة وسيلة كانت، ولكن على طالب الحقّ أن يلجأ إلى الاستعاذة الحقيقية به تعالى من مكائد الشيطان الخبيث، ولا يهتم بوساوسه، فلا يوقع نفسه في وهم أنّ سلوك طريق الحقّ تعالى شاق، أجل هو يبدو شاقاً في بداية الأمر، ولكنّ الله يسهّل للإنسان إذا دخل هذا الطريق السّعادة ويقرّبها إليه"16.

2- التّوبة من الذنوب والمعاصي
لكنّ إيقاظ الفطرة قد يتطلّب أمراً آخر بالإضافة إلى المعرفة، حيث إنّ ارتكاب الذّنوب والمعاصي يؤدّي إلى خمود الفطرة عند الإنسان وانطفاء نورها تدريجيًّا... ولهذا فإنّ التّوبة هنا شرطٌ أساسيّ. فالذي يلحظ في نفسه نوعاً من اليأس فليعلم أنّه بالإضافة إلى نقصان معرفته وغلبة جهله، قد وقع في ذنوب أو معاص أو تبعات لذنوبٍ سابقة، وعليه أن يتطهّر منها... ومثل هذه الطهارة هي التي تستنزل محبّة الله...

يقول الإمام قدس سره: "أيها العزيز، إيّاك أن تسمح للشيطان والنفس الأمارة بالهيمنة عليك والوسوسة في قلبك، فيصوّران لك العمليّة جسيمة وشاقّة ويصرفانك عن التّوبة. اعلم بأنّ إنجاز الشّيء القليل من هذه الأمور يكون أفضل، ولا تيأس من رحمة الله ولطفه، حتى وإن كانت عليك صلاة كثيرة وصيام غير قليل، وكفارات عديدة، وحقوق إلهيّة كثيرة، وذنوب متراكمة، وحقوق الناس لا تعدّ، والخطايا لا تحصى، لأنّ الحقّ المتعالي يسهّل عليك الطّريق عندما تقوم بخطوات حسب قدرتك في اتّجاهه، ويهديك سبيل النّجاة"17.

ويقول قدس سره: "وإذا ابتُلي بالمعصية - لا سمح الله - أبدى بسرعة تبرّمه وانزعاجه منها، وندم عليها، وظهرت صورة ندمه في قلبه، وتكون نتيجة هذه النّدامة عظيمةً جدًّا، وآثارها حسنة وكثيرة، ثمّ يحصل من جرّاء ندمه العزم على ترك المعصية وترك مخالفة ربّ العالمين. وعندما يتوفّر هذان الرّكنان ، النّدم على اقتراف المعصية والعزم على عدم العودة إليها ، يتيسّر أمر سالك طريق الآخرة، وتغمره التّوفيقات الإلهيّة ليصبح حسب النّصّ القرآنيّ ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ18. وهذه الرواية الشريفة19، محبوباً لله تعالى إذا كان مخلصاً في توبته"20.

3- التّواجد في البيئة المناسبة للإيمان
يحتاج كلٍّ واحدٍ منّا إلى التّواجد في البيئة التي تفعّل الإيمان في قلبه، واجتناب الأجواء التي تبثّ اليأس في نفسه. ويحذّرنا أمير المؤمنينعليه السلام من زمرة المنافقين الذين لا شغل لهم سوى إشاعة أجواء سوء الظّنّ بالله، وما يعقبه من قنوط ويأس من مواعيد ورجاءاته: "أُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ، بِتَقْوَى اللهِ، وَأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ الْمُضِلُّونَ، وَالزَّالُّونَ الْمُزِلُّونَ. يَتَلَوَّنُونَ أَلْوَاناً، وَيَفْتَنُّونَ افْتِنَاناً، وَيَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَاد، وَيَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَاد، قُلوبُهُمْ دَوِيَّةٌ، وَصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الْخَفَاءَ، وَيَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ، وَقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ، وَفِعْلُهُمُ الدَّاءُ الْعَيَاءُ، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ، وَمُؤَكِّدُوا الْبَلاَءِ، وَمُقْنِطُوا الرَّجَاءِ21.

ولا شكّ بأنّ للمنافقين نفوذًا في كلّ أماكن تواجد المؤمنين. وإنّما كانوا من أهل النّفاق، لأنّهم يجاورونهم ويدخلون مداخلهم ويعملون في مؤسّساتهم ويسيرون إلى بيئتهم. وكم يحدث أن يقع المرء ضحيّة أقاويلهم التي تتمظهر بصورة النّقد أو الشّكاية أو الحقائق المنتقصة، بل إنّ بعض المنافقين قد لا يعرفون أنّهم مبتلون بهذا المرض، ولا يدرون أنّهم أسرى لهذا الداء العياء.

أمّا المؤمن الواعي الذي يُسمّى بالفقيه، فهو كما قال أمير المؤمنين عليه السلام: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِالْفَقِيهِ، حَقِّ الْفَقِيهِ؟ مَنْ لَمْ يُقَنِّطِ النَّاسَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَلَمْ يُؤْمِنْهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَمْ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصِي اللهِ، وَلَمْ يَتْرُكِ الْقُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ"22.

4- الإسراع للمعالجة والتفكّر بالنّعم الإلهيّة
وعندما يدرك أحدنا أنّه مبتلىً بدرجة من اليأس، فعليه أن يسارع إلى التخلّص منها، لأنّ من شأن هذه الحالة المرضيّة أن تنتشر في كلّ زوايا القلب وتهيمن عليه في النّهاية، وعلامة الخلوص من هذه الصّفة المهلكة ستظهر في مبحث الرّجاء إن شاء الله تعالى.

يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: "... فعلى الإنسان أن يبادر لمعالجة نفسه من هذه المعصية الكبيرة والمهلكة، فيتفكّر في مظاهر الرّحمة الواسعة للحقّ تعالى وألطافه الخفيّة والجليّة. فإنّه تبارك وتعالى ، قد خصّ الإنسان بألطاف ورحمات خاصّة، بل وميّزه بكرامات خاصّة حتّى في الرّحمات التي يشترك فيها مع سائر الحيوانات، بل ومع النّباتات أيضاً.

فمثلاً، إنّ الماء والهواء ـ وهما مدارا الحياة الحيوانيّة والنّباتيّة أيضاً ـ من النّعم التي نغفل عنها، لأنّنا غارقون فيها، فلا نعدّها نعمًا. لقد أعدّ الله جلّت قدرته للإنسان قبل ولادته أفضل الأطعمة المناسبة في تلك المرحلة، وخصّه بأن قذف في قلبي والديه محبّة أكثر ممّا هي الحال في الحيوانات الأخرى، إذ جعل في النّوع الإنسانيّ محبّة للبنين أقوى ممّا في غيره من الحيوانات الأخرى، لذلك فالبشر أكثر جديّة في حفظ الأولاد ورعايتهم وتربيتهم منها، وهذه المحبّة الاستثنائيّة تدفع الإنسان إلى خدمة أولاده طواعيّةً وعن رغبة دون منّة ولا طمع في الأجر.

فالأم تطوي الليالي الطويلة متحمّلةً مشقّة السّهر والمتاعب المضنية التي لا يمكن إجبار أحد على تحمّلها بأي قيمة، بل وترغب في هذه المتاعب من أجل أن يستريح وليدها، فتسهر لكي ينام طفلها العزيز هانئًا، وهذا انعكاس لمحبّة الله لابن آدم، وهي المحبّة التي ظهرت في قلوب الأمّهات. ومن الكرامات التي خصّ بها الإنسان هي أنّ ثدي الأم قد جعله الباري جلّت عظمته على نحو بحيث تحتضن الأم وليدها في صورة إكرامٍ واحترامٍ عند الرّضاعة.

هذا نموذج لمئات الآلاف من الكرامات الظّاهرة التي خصّ بها الإنسان في مرحلة الطّفولة والصّبا، وخصّه بنعم ورحمات أخرى في مختلف مراحل حياته يطول الكلام بذكرها، ولكنّ أعظم النّعم وأكمل الرّحمات هي نعمة التّربية المعنويّة بأشكالها المختلفة التي خصّ الله عزّ وجلّ بها الإنسان، مثل إنزال الكتب السّماويّة وبعث الأنبياء والمرسلين عليهم السلام وفيها هداية الإنسان إلى ضمان السّعادة الأبديّة والرّاحة الدّائمة، فقد دلّه على سبيل الوصول إلى السّعادة الخالدة والكمالات الإنسانيّة، وكلّ هذه النّعم المتنوّعة والألطاف الخفيّة والجليّة التي أحاطت بالإنسان دون سابق خدمة منه أو عبادة، فكلّ نعمه تعالى ابتداء، وجميع رحماته مبادرة منه.

قبل ألف سنة وبضعة قرون أنزل إلينا القرآن الكريم ، الحاوي لأعلى مراتب المعارف الإلهيّة، والمتكفّل بتحقيق أسمى السّعادات الدينيّة والدنيويّة، على نبيّ هو الرّسول الخاتم، وهو أكرم الخلائق وأعظم الموجودات وأقربهم إلى الله وبواسطة جبرائيل الأمين أفضل ملائكة الله. وكلّ هذه كرامات لهذا الإنسان: فبأيّ خدمةٍ سابقةٍ وبأيّ عبادةٍ وطاعةٍ استحقّها؟ عميت عين القلب الذي يجد ويرى كلّ هذه النّعم والرّحمات، ثمّ يسمح لليأس أن يجد سبيله إليه!"23.

* دراسات أخلاقية - الأخلاق المذمومة، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.


1- سورة يوسف، الآية 110.
2- سورة الرعد، الآية 31.
3- جنود العقل والجهل، ص 184.
4- نهج البلاغة، ص 320.
5- جنود العقل والجهل، ص136.
6- الأربعون حديثًا، ص 312.
7- جنود العقل والجهل، ص136.
8- جنود العقل والجهل، ص 135 - 136.
9- سورة يوسف، الآية 87.
10- جنود العقل والجهل، ص 136.
11- جنود العقل والجهل، ص128.
12- (م.ن)، ص129 - 130.
13- جنود العقل والجهل، ص136.
14- (م.ن), ص 129.
15- (م.ن).
16- جنود العقل والجهل، ص 111.
17- الأربعون حديثًا، ص 312.
18- سورة البقرة، الآية 222.
19- "إِذَا تَابَ العَبْدُ تَوْبَةً نَصُوحاً أَحَبَّهُ الله فَسَتَرَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ". الكافي، ج2، ص430.
20- الأربعون حديثًا، ص 309.
21- نهج البلاغة، ص 307.
22- الكافي، ج1، ص36.
23- جنود العقل والجهل، ص 136 - 137.

2017-08-07