يتم التحميل...

الوضعية المنطقية واللاأخلاق

فلسفة الأخلاق

ومعنى هذا الكلام أن العلم، أي علم، لا بد وأن يكون موضوعه شيئاً يمكن أن يدرك إدراكاً حسياً بحيث يُرى بالعين، ويُلمس باليد، وعليه فكلمة نظرية علمية لا تطلق إلا على قضية تُعبر عن شيء مشاهد ومحسوس في العالم الخارجي وإلا فهي عبث لا طائل تحته، ولا شأن للمنطق والعلم به من قريب أو بعيد...

عدد الزوار: 45

المراد بالوضعية النظرة العلمية آخذاً من الموضوع المستقل في وجوده عن شعور الإنسان، أما المنطقية فنسبة إلى المنطق، ومعنى الكلمتين مجتمعتين النظرة العلمية في المنطق، ويكون المراد المنطق التطبيقي دون الصوري1. قال الدكتور زكي نجيب محمود في (كتاب نحو فلسفة عملية ص 30): "لما كان وضع الأمور في عالم الواقع هو وحده مجال البحث العلمي، أطلق على النظرة العلمية اسم الوضعية، فإن كان الوضع القائم الذي يشغل الباحث عبارة من عبارات اللغة أو لفظة من ألفاظها كانت الوضعية في هذه الحال وضعية منطقية، ومن ثم كان هذا الإسم: الوضعية المنطقية مميزاً لطائفة من أصحاب يصوغ فيها سائر العلماء علومهم على اختلاف موضوعاته".

ومعنى هذا الكلام أن العلم، أي علم، لا بد وأن يكون موضوعه شيئاً يمكن أن يدرك إدراكاً حسياً بحيث يُرى بالعين، ويُلمس باليد، وعليه فكلمة نظرية علمية لا تطلق إلا على قضية تُعبر عن شيء مشاهد ومحسوس في العالم الخارجي وإلا فهي عبث لا طائل تحته، ولا شأن للمنطق والعلم به من قريب أو بعيد.

أما كلمة الوضعية المنطقية فتطلق على المنطق الصحيح السليم الذي يقسم الكلام إلى نوعين: أحدهما يوصف بالخطأ أو الكذب، أو بالصواب والصدق، وهو ما كان له معنى في الخارج يمكن التثبت من صدقه أو كذبه بالحس كقول القائل: الشمس طالعة حيث ينظر فإن رأيناها فالقول صادق وإلا فهو كاذب.

وثاني النوعين من الكلام يوصف بالكلام الفارغ الهاذر حيث لا يحمل أي معنى على الإطلاق مثل النفس خالدة، ومثل الماهية الكلية، فأين النفس والماهية والخلود حتى نتثبت من صواب هذا الكلام أو خطئه، وهل من المستطاع أن نشاهد معناه؟ ومن هنا لا يوصف بالكذب حيث لا يمكن أن يوصف بالصدق تماماً كما لا يوصف الحجر بعدم النطق، وبكلمة لا يكون الكلام كاذباً إلا حيث يمكن أن يكون صادقاً. وبأسلوب آخر إن علماء الطبيعة يكتفون بتسجيل ما يرون فيها ويشاهدون، وهكذا الفلسفة الوضعية ينبغي أن تحلل الألفاظ، ثم تُسجل وتُعلن أن أية عبارة لا تحكي عن معنى في عالم المادة فهي لغو وعبث.

والقيم الأخلاقية من هذا النوع لأنها ليست مادية يمكن أن تدرك بالحس، وكذلك القيم الدينية.

الجواب
1ـ لا هدف للوضعية المنطقية أو الفلسفة التحليلية إلا القضاء على الدين والأخلاق واعلان الحرب على كل ما يمتّ إلى الإنسانية بسبب حيث لا شيء من قيمها كالعدل والاحسان يدرك بالحس. ولا أدري كيف يعيش الناس بلا وجدان وإنسانية في سلوكهم!. وهل بديل عن الأخلاق تستقيم معه الحياة؟ وما هو هذا البديل؟ واين نجده؟ في الصهيونية أو الرأسمالية الفاشية أو الانبريالية أو الاشتراكية التي تحاسب الفرد وتعاقبه على حريته في التعبير عن نفسه وآرائه، أو غير ذلك من الفلسفات والنزعات الحديثة التي تبث السموم في النفوس، وتغرس فيها أخطر العادات وأقبحها؟.

2ـ ان حقائق الكون بما فيه ومن فيه على أنواع في طبائعها وصفاتها، وليست كلها من نوع واحد نستطيع إدراكه بالحس وإلا كان الإنسان في غنى عن العقل والحقائق العقلية، والبحث عن الحق والباطل والخير والشر والكامل والناقص، ومعنى هذا ـ لو تم ـ أن أي جهد يبذله الإنسان لمعرفة شيء من العالم المجهول فهو سفه وحماقة لأن جهده لا يؤدي به إلى شيء!. وأيضاً معنى هذا أن الإنسان والحيوان بمنزلة سواء.

ان الموجود على نوعين: ظاهر وباطن، والأول يدرك بالحس مباشرة كالحجر والشجر، والثاني يدرك بأفعاله وآثاره كالجاذبية والمغناطيس والعقل وغيره من ملكات النفس، وهذا تماماً كالأول في وجوده ورسوخه. قال اينشتين: "من الخطأ أن نعطي الأولية للتجربة الحسية.. فهناك عالم موضوعي وحقيقي وراء حواسن" وفي كتاب المنطق للدكتور صليبا ص 395 ما نصه:

"من الخطأ الظن أن ما لا يقع تحت الحس الظاهر لا حقيقة له. قال (جوفروا): ان نجاح العلوم الطبيعية في هذه السنوات جعلنا نعتمد على الرأي القائل: أن لا وجود للحوادث إلا إذا وقعت تحت حواسنا.. ولكننا لا نسلم أبداً بأن الحقيقة محصورة فيما يقع تحت الحواس من الحوادث. إننا نعتقد أن هناك حوادث من طبيعة أخرى لا تُرى بالعين، ولا تلمس باليد، ولا يكشف عنها المجهر والمبضع، ولا تدرك بالشم أو بالذوق، ولا تسمع بالأذن، بل نشعر بها مع ذلك شعوراً يقينياً، وهذه الحوادث هي الحوادث النفسية من احساسات وفكر وذكريات وعواطف وتهيجات ورغبات وأحكام".

ونعطف على قول هذا الفيلسوف فنقول لو حصرنا المعرفة بالمادة فقط لحجرنا على العقل أن يفكر في أي شيء سواها، ولم يكن للعلوم النفسية والإنسانية ومؤلفات العقل أيّ شأن ووزن مع أن المعرفة أوسع نطاقاً من العلم بمعناه الجديد، بل من صميم العلم أن يفكر الإنسان في مصدر وجوده وفي مصيره، وماذا ينبغي أن يغفل ويترك، وأن يمهد الطريق لتغيير ما يجب تغييره من نفسه ومحيطه.

3ـ إن أخص خصائص العلم الغاء كل ما هو جزئي وخاص. وابقاء ما هو عام، ومعنى هذا أن قضايا العلوم تتجاوز حدود الحس إلى العقل لأن الحس مقصور على ما هو خاص فقط، فإذا حصرنا طريق المعرفة بالحس وحده انسد باب العلوم بالكامل، وكان طلب أي علم كان، محاولة للمحال! ومن هنا قال كل العلماء مع أرسطو: العلم بالفرد ليس علماً، ولا علم إلا بالكليات.

وبعد، فإن الكون يزخر بالحقائق الخفية التي لا تُرى بالعين ذات الطاقة المحدودة، وما من عاقل على وجه الأرض إلا ويؤمن بالعديد من الحقائق، بل ويرى الإيمان بها من الضرورات والمسلمات الأولية.

وكلمة أخيرة نرد بها على الوضعيين المناطقة القائلين بأن الأخلاق نسبية لا واقعية، وهي يجب ـ على منطقهم ـ أن لا يوجد في الدنيا صالح وفاضل حقاً وواقعاً حتى ولو ملأ الأرض قسطا وعدلاً، وخيراً وأمناً، وجعل الناس كلهم قلباً واحداً ويداً واحدة، وقضى على الجهل والمرض والفقر، وأيضاً يجب أن لا يوجد شرير وفاسد حتى ولو سعى في الأرض فساداً، وأهلك الحرث والنسل، لأن الخير والفضيلة والشر والرذيلة كلام فارغ من المعنى!. ولا كلام إطلاقاً بعد هذه الثرثرة والغرغرة.

*فلسفة الأخلاق في الإسلام،الشيخ محمد جواد مغنية،دار التيار الجديد،بيروت لبنان،ط5ـ1412هـ ـ1992م،ص41ـ45.


1- موضوع المنطق الفكر الإنساني، وتعريفه فن التفكير، وغايته الوصول إلى معرفة الحقيقة، وينقسم إلى صوري وتطبيقي، والأول هو منطق ارسطو القديم، ويبحث عن الصور الذهنية وانسجام الفكر مع نفسه بغض النظر عن الأشياء الخارجية، أما المنطق التطبيقي فيبحث عن اتفاق الفكر وانسجامه مع الأشياء الخارجية، وليس من شك أن الأصول تستدعي أن يتفق الفكر مع الخارج لأن النظرية يجب أن تؤدي إلى العمل، كما أن العمل يجب أن يهتدي بالنظرية الحقة. 2010-03-02