يتم التحميل...

علم الأخلاق منه نظري ومنه عملي

فلسفة الأخلاق

هناك أمور قد يسميها بعض الناس (علماً) وما هي بشيء كمعرفة الانساب، وطول سفينة نوح وعرضها، واسم نملة سليمان وهل هي ذكر أو أنثى؟ وغير ذلك مما لا خير في معرفته، وموسع على العباد في جهله...

عدد الزوار: 28

هناك أمور قد يسميها بعض الناس (علماً) وما هي بشيء كمعرفة الانساب، وطول سفينة نوح وعرضها، واسم نملة سليمان وهل هي ذكر أو أنثى؟ وغير ذلك مما لا خير في معرفته، وموسع على العباد في جهله. وفي أصول الكافي عن الإمام الصادق عليه السلام : "لا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له". وفي سفينة البحار عن الإمام الكاظم عليه السلام : "أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلا به، وأوجبه عليك ما أنت مسئول عن العمل به، وألزمه لك ما دلك على صلاح قلبك، وأظهر لك فساده".

وكل هذه الأوصاف تصدق وتنطبق على علم الأخلاق، فهو بقواعده ومبادئه يهدي للتي هي أقوم وأسلم من السلوك والأفعال بحيث لا يسوغ الفصل بينهما بحال، لأن العلم والعمل لا يصلحان إلا على أساس الخلق الكريم، ومن عرف هذا الخلق لزمته الحجة، وأصبح عنه مسئولاً، ومن هنا قسموا علم الأخلاق إلى نظري وعملي.

والنظري هو الذي يبحث عن أسس الخير المطلق وفكرة الفضيلة من حيث هي بغضّ النظر عن المصاديق والأفراد تماماً كالبحث عن العبادة من حيث هي عبادة لا من حيث هي صوم أو صلاة فقط. وأيضاً يسمى العلم النظري للأخلاق بفلسفة الأخلاق، أما علم الأخلاق العملي فلا يبحث عن الخير المطلق والفضيلة كفكرة ومبدأ، بل يبحث عن مصاديق الخير التي تقع تحت الحواس والفضائل الخارجية كالوفاء بالأمانة والإحسان إلى المعوزين تماماً كما يقول الفقيه: يجب رد التحية، وتحرم السرقة، وعليه يكون موضوع علم الأخلاق النظري بمنزلة الجنس الذي لا يوجد في الخارج إلا بوجود أفراده، وموضوع علم الأخلاق العملي نفس المصاديق التي تحس وتظهر للعيان كالكرم والشجاعة.

مثلاً ـ إذا قلنا: كل ما أمر به الوحي والعقل فيه خير أو كل ما فهي نفع وصلاح للناس في جهة من الجهات فهو حسن، كانت هذه القضية أخلاقية نظرية بحتة وفكرة مجردة، وإذا قلنا: هذا الميتم أو المستشفى المجاني خير تكون القضية عملية مع العلم بأن الأخلاق النظرية ليست غاية في ذاتها، بل خطوة مرحلية ينتقل منها الباحث إلى التطبيق والعمل، وهذه المرحلة التطبيقية العملية هي الهدف الأسمى لعلم الاخلاق بل لكل علم على الاطلاق.

أما مجرد الحفظ والفهم لما دونّه العلماء في كتبهم أو دار في رءوسهم فهو كلام في كلام تماماً كالحرف المسطور في كتاب مقبور، والفرق ان الذي في هذا الكتاب حبر على ورق، أما الحفظ فصورة في مرآة الذهن.

والخلاصة ان العلم النظري للأخلاق مجرد معرفة، والعلم العملي سلوك، والصلة بينهما تماماً كالصلة بين اليد والعمل بها، وبين العين ورؤية الطريق. وكما ان كلا من اليد والعين ليست لمجرد الجمال والتناسب بين الأعضاء. كذلك المعرفة ليست لمجرد الترف وتراكم الصور

الذهنية، بل للعمل من أجل الحياة الطيبة الخيرة التي يوحي بها الحب والعدل، ويهدي إليها الوحي والعقل.

....والنظرية الأخلاقيةـ أو العلم النظري للأخلاق أو فلسفة الأخلاق أو التخطيط للعمل والتطبيق، قل ما شئت ـ مثالها مثال البيت حيث يتألف من عناصر ومواد أولية كالحديد والأخشاب والأحجار والتراب، ونحن نبحث هنا عن العناصر والمواد الأولية لحقيقة الخير والفضيلة بوجه عام من غير تقييد وتخصيص بخير دون خير وفضيلة دون فضيلة كالعدل أو الإحسان أو إيتاء ذوي القربى أو غير ذلك من الفضائل والخيرات التي يبحث عنها في علم الأخلاق العملي.

واكرر مؤكداً أن علم الأخلاق النظري وسيلة وأداة للعمل بما تقتضيه قواعد الاخلاق ومبادئها تماماً كالإيمان بالنسبة إلى عمل الصالحات، فالإيمان (معرفة بالقلب، واقرار باللسان، وعمل بالأركان)، وكذلك الأخلاق، علم وعمل، قول وفعل ايمان وصالح الأعمال تماماً كما قال الإمام أمير المؤمنين عليه السلام  في وصف أخ له في الله: (كان يفعل ما يقول، ولا يقول ما لا يفعل).1

وعناصر الخير والفضيلة على العموم خمسة(1) الإلزام الخلقي الذي يأمر بالخير وينهى عن الشر(2) المسئولية المنبثقة من هذا الإلزام والمتفرعة عنه(3) الجزاء بالثواب على طاعة هذا الإلزام والعقاب على معصيته(4) النية الخاصة المخلصة لوجه الله والخير(5) الجهد الروحي بضبط النفس عن الهوى، والجهد البدني بالصبر والثبات على مواجهة الصعاب والعوائق من أجل عمل الخير وترك الشر.

*فلسفة الأخلاق في الإسلام،الشيخ محمد جواد مغنية،دار التيار الجديد،بيروت لبنان،ط5ـ1412هـ ـ1992م،ص53ـ56.


1- قال فيلسوف كبير ومعاصر: يهتم الغربيون بالعمل وأحكام العقل، ومن أجل هذا يقدمون: الاسم على الفعل ويقولون زيد جاء لأن الاسم يومىء إلى العلم والعقل، أما العرب فيهتمون: بالفعل وقيم السلوك، ولذا يقدمون الفعل على الاسم، ويقولون: جاء زيد، ولا بأس بهذا النوع من التفنن في الأسلوب والتعبير والتفلسف في التأمل والتفكير. 2010-03-09