يتم التحميل...

تربية الجسم وتربية الاستعداد العقلي

التربية

ان التربية على نوعين أحدهما على نحو يصدق عليها اسم "الصنع أو الخلق" وفي الواقع "الصناعة" وهي التربية التي يفترض فيها الإنسان شيئاً، ويصنع لهدف أو أهداف متعددة. والشيء غير المقصود في هذا الصنع هو نفس تلك المادة. إن للصانع والمبدع هدفاً خاصاً، ويستفيد من المادة التي ...

عدد الزوار: 44

بسم الله الرحمن الرحيم 
ان التربية على نوعين
أحدهما على نحو يصدق عليها اسم "الصنع أو الخلق" وفي الواقع "الصناعة" وهي التربية التي يفترض فيها الإنسان شيئاً، ويصنع لهدف أو أهداف متعددة. والشيء غير المقصود في هذا الصنع هو نفس تلك المادة. إن للصانع والمبدع هدفاً خاصاً، ويستفيد من المادة التي يريد صنعها بعنوان شيء معين. فيجري عليه أي عمل يوافق قصده وهدفه، ولعل ما يقوم به يعتبر نقصاً وتخريباً بالنسبة لتلك المادة وذلك الشيء، أما بالنسبة للإنسان الذي يريد أن يستفيد من ذلك الشيء فيعتبر عمله "صناعة"، مثلاً إن الإنسان ينظر إلى الغنم بعنوان شيء يستفيد منه. فقيمة الغنم عند الإنسان هي كيف يمكنه الاستفادة منها. نتصور الآن فحل الغنم، فالإنسان الذي يريد الاستفادة من هذا الغنم عليه أن يسمنه ليبيعه بثمن جيد أو يستفيد من لحمه. ولأجل ذلك فإنه يخصى ليبقى هادئاً مشغولاً دائماً بأكل العلف لا همّ له غير ذلك، فمن وجهة نظر الإنسان يكون إخصاء الفحل هو كماله، ولكن ما هي نظرة الفحل نفسه؟ هل يرى أنهم اكلوه أم أحدثوا فيه نقصاً؟ من المسلَّم به أنه يرى الثاني.

وهكذا هي الحال بالنسبة إلى الغلمان والخدم. فالغلمان الذين كانوا يخصون في السابق انهم يرون ما حدث لهم نقصاً. ولكن من وجهة نظر المستفيدين منه يعتبر عملهم هذا كمالاً. لأنه يسهل عليهم استخدامه كآلة في قسم الحريم والنساء وغيره.

بشكل عام يوجد مفهوم كهذا في تربية الإنسان الروحية. فتارة يهيئ أحد المذاهب هدفاً ويضيع الإنسان بنحو يحقق له ذلك الهدف المقصود، ولو باحداث نقص واضرار في الإنسان. يسلب منه بعض الأحاسيس الطبيعية ويوجد فيه نقصاً روحياً أو جسمياً.

المذهب التربوي الإنساني
وقد يكون المذهب في خدمة الإنسان أي ليس له هدف غير الإنسان وإسعاده وإيصاله إلى الكمال، فليس له مقصود آخر يريد صياغة الإنسان لأجله، ويكون المذهب تربوياً وإنسانياً إذا لم يكن هدفه خارجاً عن نفس الإنسان. أي يقوم على أساس إيصال الإنسان إلى الكمال. فيجب أن يقوم المذهب على أساس تربية الاستعداد والقوى الإنسانية وتنظيمها، يمكن لهذا المذهب أن يقوم بعملين لا أكثر: أحدهما أن يسعى لمعرفة الاستعداد الإنساني في الإنسان وتربيته لا تضعيفه، والثاني أن يسعى لإيجاد نظام يلائم بين الاستعدادات الإنسانية، لأن الإنسان يتمتع بنوع خاص من الحرية الطبيعية فبسبب هذا النظام والتنظيم لا يحدث إفراط ولا تفريط، أي أن كل قوة وكل استعداد ينال حظه ولا يتجاوز على بقية الاستعدادات.

استعدادات الإنسان نوعان: أحدهما هو الاستعدادات التي يشترك فيها مع الموجودات الحية الأخرى، والثاني هو الاستعدادات المختصة به. والاستعدادات المشتركة هي الأمور الجسمية أو الجسمانية.

تربية الجسم في الإسلام
المسألة الأولى:
هل أن الإسلام يهدف لتربية الجسم أو لتضعيفه؟ وهل هو من المؤيدين للإسراف والتمتع أم من المخالفين له؟
هنا مفهومان، وهذه التعابير توقع في الخطأ والاشتباه أحياناً. الإسلام يؤيد تربية الجسم مع أنه مخالف للإسراف بمفهومه الأدبي والاصطلاحي. برأي الإسلام يجب أن يكون اسلوب الإنسان بنحو يجعل جسمه سليماً، يملك أعلى حد للنمو، ولا تصيبه الأمراض والآفات والأضرار. إن مثل الجسم كبناية، فتارة ترعونها وتحفظونها من الهواء والأمطار والثلوج وتبذلون أقصى جهودكم لحفظها، وأخرى تتركونها لحالها، يصيبها من الحوادث ما يؤدي إلى خرابها وانهدامها.

لاشك أن التعاليم الإسلامية قائمة على أساس حفظ الجسم ونموه وسلامته، وان سبب تحريم كثير من الأمور هو ضررها على البدن. واحدى المسلمات وبديهيات الفقه: إن كثيراً من الأمور حرمت لأنها مضرة لجسم الإنسان. وهناك أصل عام لدى الفقهاء وهو لو أحرز ضرر شيء على جسم الإنسان ـ وإن لم يوجد دليل من القرآن والسنة عليه ـ فإنه حرام قطعاً. ويقولون: إن الأضرار بعضها معتد به وبعضها غير معتد به، أي أن الضرر قليل جداً بحيث لا يعتنى به. ليس هناك حرج في الشريعة، فلا يحرم هذا المقدار القليل من الضرر، بل يكون مكروهاً أو يستحب تركه. ولكن لو كان هناك ضرر قطعي ومسلم به فإنه حرام في نظر الإسلام، وان لم توجد للفقهاء فتوى في بعض المسائل، فذلك بلحاظ أنهم لم يقفوا على الموضوع. أي أنه لم يتضح لهم أنه مضر حقاً أم لا، كالفتوى بعدم استعمال الترياك أو الأفيون، كما يذكر المرحوم السيد أبو الحسن في رسالة "وسيلة النجاة": فتارة تسأل ما حكم استنشاق الأفيون مرة واحدة "لا بنحو الاعتياد عليه"؟ والجواب: بما أن المقياس هو الضرر، وهذا المقدار غير معتد به إذا فليس حراماً، ولكن التعود عليه والادمان على استعمال الترياك بشكل يكون عادة له محرم، فكل مقدمة توجب وتسبب هذه العادة فهي حرام. في حين ليس لنا دليل على حرمة الترياك في الكتاب والسنة. الاعتياد على الأفيون يعتبر حراماً بدليل انه مضر. أو مثلاً الهيرويين الذي هو مادة جديدة لم تكن سابقاً، بما أن ضرره محرز قطعاً فلا شك في حرمته. وبشكل عام: كل شيء مضر فهو حرام. فيحتمل أن يدخن الفقيه السيجارة والنرجيلة لكنه لا يعتقد بأنها شيء مضر جداً، ولكن فقيهاً آخر عالم باضرار هذين أو أنه أحرز أن استعمالها يضر بالبدن ويقصر العمر ويسبب خطراً على سلامة الإنسان فيفتي بأنها حرام. وان نفس المعتادين على التدخين حينما يمرضون ويراجعون الطبيب ويقول لهم: إن السجائر مضرة لكم فيقولون بما أن الطبيب قال ذلك فإنها تحرم علينا ولن ندخن بعد.

إنه أصل عام. ولا شأن لنا بالجزئيات. ففي الإسلام أصل عام يقول: كل ما فيه ضرر على جسم الإنسان فهو حرام، وبالعكس نرى في السّنة أن تناول فاكهة معينة وان بعض الخضار مستحب، لأنها تقوي الأسنان وتقي البدن بعض الأمراض. وإن ملاك الحرام أو المستحب أو المكروه هو الضرر أو الفائدة وعدم الفائدة.

ولهذا فإنه تربية الجسم في حدود التربية العلمية، والصحة، وسلامة وتقوية الجسم تعتبر كمالاً. إننا نعلم أن قوة جميع الأقوياء تعد كمالاً لهم. وكان علي عليه السلام قوياً وهذه احدى كمالاته.

تربية الجسم وتربية البدن "بمعنى الاسراف"
قد يقال: لو كان الإسلام موافقاً لتنمية البدن، إذاً لماذا يقال "الاسراف" قبيح؟ والجواب: إن الاسراف القبيح والسيئ هو غير تربية البدن التي هي بمعنى الصحة. ذلك لأن الاسراف في الحقيقة هو تمنع النفس وبطرها المنافي غالباً صحة الجسم وتربيته ـ بالمعنى المتقدم ـ ذلك الاسراف السيئ معناه أن يكون الإنسان محباً وعابداً لنفسه وشهواته، يسعى دائماً لتحقيق ميوله النفسية، ولا علاقة له بموضوع نمو الجسم، بل إنه على العكس تماماً، فإن الإنسان المسرف سوف يضر جسمه حتماً. الإنسان المحب لنفسه والشهواني لا يفكر إلا ببطنه لكي يشبع لذاتها، لاشك أن الذي يريد أن يحفظ سلامة جسمه لا يمكن أن يكون هكذا، بل يجب أن يحارب عبودية البطن، الإنسان الكسول والمسرف يبحث عن لذات أخرى، يقضي ليله دون نوم في مجالس اللهو، ويجهد جسمه واعصابه، هذا الاسراف في متعة البدن مخالف لتربية الجسم بمعنى الصحة الجسمية. نعم إن هذا الاهتمام بالجسم يختلف عن موضوع تنمية وتربية القوى الجسمية، بل إن الاثنين متضادان إلى حد ما، يعني إذا أراد الإنسان تربية جسمه بمعنى حفظ سلامته بنحو يقيه الأمراض والأضرار ويطيل من عمره، فيجب عليه محاربة ذلك النوع من الاهتمام بالبدن، الذي هو حب النفس والشهوة. ولا أتصور أن هناك حاجة للبحث في أن تربية الجسم أصل من اُصول التربية الإسلامية، المهم هو أن نبحث حول الاستعدادات المختصة بالإنسان.

تربية الاستعداد العقلي
إن الاستعداد العقلي أعلى مراتب استعدادات الإنسان. ولكن اتباع الأديان المحرفة كانوا يعرفون الدين بأنه حقيقة مخالفة للعقل، وان العقل يشكل سداً في طريق الدين، فيجب على المتدين أن يبتعد عنه ويتركه وإلا فليس بمتدين. ترى هذا الأمر بشكل واضح في المسيحية، وغيرها. ولكن كيف واجه الإسلام هذا الاستعداد الإنساني؟

هنا أحد المجالات التي تتبين بها قيمة الإسلام الحقيقية. الإسلام دين مدافع عن العقل. وقد أكد كثيراً على هذا الاستعداد، واستعان بتأييد نفسه، بالعقل دائماً. كثرة آيات القرآن في هذا الشأن، الآيات التي تدعو إلى التفكير والتعقل، أو الآيات التي ذكرت أموراً تحفز الإنسان على التفكير. نذكر هذا الموضوع باختصار كي لا يطول بحثنا، لأنه أمر واضح ولا يحتاج إلى توضيح، ونذكر التعليل كنموذج.

التعقل في القرآن
قال تعالى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ *  الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ1. بدأ الموضوع بـ"عباد"، كأن القرآن يريد أن يقول: أن عبد الله هو الذي يكون هكذا، وهذا هو شرط العبودية. (الذين يستمعون القول). ولم يقل: "يسمعون" فهناك فرق بين "السماع" و"الاستماع". فالسماع هو أن يسمع الإنسان وإن لم ينو السماع.

أما "الاستماع" فهو الاصغاء بإرادة الإنسان، كما انك تجلس هنا وتستعد للاستماع، يقال في مجال الموسيقى: لا يحرم سماعها، ولكن يحرم الاستماع إليها. يقول القرآن: (الذين يستمعون القول) أي لا يرفضون أي كلام قبل فهمه وإدراكه يستمعون أولاً بدقة، (فيتبعون أحسنه) ثم يغربلونه ويحللونه، ثم يقيمون خيره وشره، ثم يختارون أحسنه ويتبعونه. فالآية تشير إلى استقلال الفكر والعقل. وان يكون الفكر بحكم الغربال للإنسان، وكل كلام يسمعه الإنسان يضعه في هذا الغربال ثم يزن الحسن والقبيح، الجيد والسيئ ثم يختار أحسنه وأفضله (أولئك الذين هداهم الله) يصف القرآن هذه الهداية بالهداية الإلهية مع أنها هداية عقلية (وأولئك هم أولو الألباب) "الألباب" جمع "لُبّ" بمعنى الدماغ لا بمعنى المخ، ويحتمل أن يكون هذا الاصطلاح من مختصات القرآن "لأننا بحثنا في غير القرآن فلم نجده" وان لم يكن الاصطلاح فإن القرآن استعمل كلمة "لب" للتعبير عن العقل في كثير من الموارد، كأنه شبه الإنسان بجوزة أو لوزة فكل الجوزة هي قشر ولكن الأساس والأصل فيها هو لبها الموجود في داخلها. فلو نظرنا إلى الإنسان بهيئته وهيكله فان لبّه هو عقله وفكره. ماذا نقول لو لم يكن للجوزة لب؟ نقول إنها لا شيء وانها خالية لا فائدة فيها ويجب رميها بعيداً. إن لم يكن للإنسان عقل لم يكن له جوهر ولب الإنسانية المقوم لها. فهو إنسان بلا معنى وغير مفيد. أي أنه بصورة إنسان ولا معنى للإنسانية فيه. فحسب هذا التعبير يكون معنى الإنسان عقله، ويكون العقل عقلاً ويصل إلى هذا الحد إذا كان مستقلاً (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه) لا يوجد تعبير أفضل من هذا يدعو إلى حكومة العقل واستقلاله، وامتلاكه القدرة على النقد والانتقاد وتحليل المسائل والأمور، فالإنسان المحروم من هذه الموهبة هو لا شيء.

هذه آية واحدة، وان آيات القرآن عديدة في هذا المجال، ولو أردنا استعراضها وجب علينا أن نخصص عدة بحوث لها ولكن هذا المقدار كافٍ نموذجاً لهذا الموضوع.

التعقل في السُّنَّة

أعطيت للعقل والتعقل أهمية كبيرة في السنة الإسلامية وبالخصوص في الروايات الشيعية وإحدى مزايا الروايات الشيعية على غيرها اهتمامها الكبير بالعقل والاعتماد عليه. ولهذا السبب يعترف الكتابُ الاجتماعيون المعاصرون وحتى أهل السنة بأن العقل الشيعي كان أقوى من العقل السني في تاريخ الإسلام. لأحمد أمين كتاب معروف باسم "فجر الإسلام" و"ظهر الإسلام" و"ضحى الإسلام" و"يوم الإسلام" ففجر الإسلام مجلد واحد، وضحى الإسلام ثلاثة مجلدات، وهو كتاب فني، ولكن فيه نقاط ضعف كثيرة من وجهة نظر الشيعة حتى إن البعض يعتبره كتاباً مخالفاً للشيعة. ولاشك أنه كتاب ذو محتوى جيد من الناحية العلمية. ومع أنه معروف بمخالفة الشيعة لكنه يعترف في هذا الكتاب بأن العقل الشيعي عقل استدلالي، وان العقل الشيعي في جميع المراحل أقوى استدلالاً. ويفسر سبب قوة العقل الشيعي باعتماد الشيعة على التأويل كثيراً. ولكن الحقيقة هي أن منشأ هذا الأمر هو أئمة الشيعة الذين دعوا الناس كثيراً إلى التعقل والتفكير. يقول في هذا الكتاب: ظهرت الفلسفة بين الشيعة ولم تظهر بين السنة في تاريخ الإسلام فلم تكن في مصر فلسفة إلى أن أصبحت شيعية. ولكن بعدما ذهب التشيع من مصر ضعفت الفلسفة فيها ولم تكن فيها فلسفة حتى القرن الأخير إلى أن جاء سيد شيعي "يعني جمال الدين" إلى مصر وروّج سوق الفكر مرة ثانية، ثم يعبر تعبيراً رائعاً فيقول: "والحق أن الفلسفة بالتشيع الصق فيها بالتسنن" وبشكل عام فإن العقل الشيعي أقوى استدلالاً.

وأساس ذلك هو أن السنة الشيعية اهتمت بهذا الموضوع أكثر من السنة السنية، إن أهل السنة مجموعتان منذ البداية، المعتزلة والأشاعرة، كانوا على اختلاف فيما بينهم، كان المعتزلة موافقين للعقل والأشاعرة موافقين للتعبد. كان الشيعة مع المعتزلة في الرأي، أي أن لهم بعض الاختلافات لكنهم يتفقون في الاُصول، ووجه الاشتراك بينهم هو أن الفريقين يحترمان العقل والاستدلال. هناك تعابير كثيرة في الروايات الشيعية حول العقل لا نجدها في كتب السنة. فكتب الشيعة أمثال "الكافي" و"البحار" وكتب الحديث الأخرى تبدأ بكتاب "العقل والجهل" ثم كتاب التوحيد وبعده كتاب النبوة، ثم كتاب الحجة و... فأول كتاب يفتتح به هو كتاب "العقل والجهل" طبعاً ان العقل يقف امام الجهل وهذا ما سأوضحه. فإننا نرى الروايات الشيعية تعطي احتراماً وقيمة عظيمة للعقل وحجته.

العقل والجهل في الروايات الإسلامية
يقول الإمام عليه السلام: إن لله حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، الحجة الظاهرة هم الأنبياء والحجة الباطنة هي عقول الناس. هذا الحديث من مسلمات أحاديث الشيعة وهو مذكور في كتاب الكافي. والجهل المذكور هنا هو ما يقابل العقل، والعقل في الروايات الإسلامية هو القوة والقدرة على التحليل، وعندما ترى أن الإسلام يحتقر الجاهل في أغلب الأحيان فليس المراد بالجاهل الأمي المقابل للعالم. بل إن الجاهل هو ضد العاقل. فالعاقل هو الذي يملك فهماً وقدرة على التحليل. والجاهل الذي لا يملك هذه القدرة. نرى كثيراً من افراد البشر الذين هم علماء لكنهم جهلاء، علماء بمعنى أن لديهم كثيراً من المعلومات التي اكتسبوها من الخارج، تعلموا أشياء كثيرة، ولكن ذهنهم ليس إلا مخزناً فقط لا اجتهاد لهم ولا استنباط ولا تحليل للأمور. مثل هؤلاء جهلة في رأي الإسلام، أي أن عقولهم راكدة، فيمكن أن يكون علم الإنسان كثيراً لكن عقله جامد.

جاء في الحديث: "الحكمة ضالة المؤمن"، الحكمة دون شك هي العلم المحتوي على الحقيقة، العلم الذي له أساس واستحكام وليس خيالياً.

نحن لا نستطيع أن نصور هذه الأمور بدقة ونقوم باعمال المبلغين، وإلاّ فإن كل واحد من هذه يعتبر أمراً مثالياً ذا قيمة في التبليغ للإسلام، بان يقدس الدين الحكمة إلى هذا الحد ويقول: الحكمة ضالة المؤمن. ومعناه أن تكون حالة المؤمن كحالة من ضاع منه شيء نفيس فهو يبحث عنه دائماً. ولهذا الحديث تتمة وردت في أحاديث أخرى. ويمكن أن نرى هذا المضمون في عشرين موضعاً منها: "خذوا الحكمة ولو من أهل النفاق" "ولو من أهل الشرك" أي لو شعرت بأن ما عند ذلك الشخص هو حكمة وعلم صحيح، فلا تفكر بأنه كافر أو مشرك، نجس، وليس بمسلم، بل اذهب وخذها منه، فالحكمة لك وهي دين عنده وليست ملكاً له. "أينما وجدها فهو أحق بها".

اهتمام المسلمين بطلب العلم
فلنتجاوز وضعنا هذا الذي مسخت فيه الثقافة والمعرفة، بحيث يفسرون كل ما عندنا بأسلوب سيئ وقبيح، في أوائل القرن الثاني للهجرة حينما كان الإسلام في أوج نشاطه وكان سوقه رائجاً، ترجمت علوم كثيرة من فارس والروم والهند واليونان وغيرها، وادخلت إلى عالم الإسلام. فما سبب ذلك، وكيف لم يبد العالم الإسلامي أية ممانعة؟ السبب هو وجود التعاليم التي هيأت الجو لذلك، فلو وجد كتاب في أقصى الصين فلا مانع من ترجمته "اطلبوا العلم ولو بالصين"2.

فمثلاً عبد الله المقفع الذي ترجم منطق أرسطو كان في زمن الإمام الصادق عليه السلام.

كانت هذه الأعمال قد بدأت قبل زمن الإمام الصادق عليه السلام بل من زمن بني أمية، لكنها اتسعت في زمن الإمام الصادق عليه السلام ووصلت إلى أوجها، وترجمت علوم الماضين بكثرة في زمن هارون الرشيد والمأمون وعصر الأئمة عليه السلام، كان "بيت الحكمة" مدرسة لم يكن لها نظير في زمنها وحتى بعده لم يوجد مثلها إلا القليل. إن أئمتنا الذين كانوا ينقدون الخلفاء ويظهرون انحرافاتهم ـ ولعن الخلفاء بسبب تعريف الأئمة الناس بانحرافاتهم فلعنوهم ـ مع ذلك لم يرد في حديث لهم عليه السلام أن عمل الخلفاء هذا كان بدعة وأن ترجمة علوم الأمم الكافرة كاليونان والروم والهند وإيران وادخالها إلى دنيا الإسلام هو من الأعمال المخربة، في حين أن هذا الأمر قد يكون أفضل وسيلة للعوام لسحق هؤلاء الخلفاء. لكننا لم نجد حتى حديثاً واحداً يصف عمل الخلفاء هذا بأنه بدعة ومخالفة للإسلام.

إن هذا الأمر هو قاعدة جاء بها الإسلام "خذوا الحكمة ولو من أهل النفاق".

تذكر رواياتنا حديثاً للمسيح عليه السلام أنه قال: "كونوا نقاد الكلام"3 أي كما ينقد الصراف العملة ويشخص الجيد من الرديء منها ويأخذ جيدها، فأنتم أيضاً كونوا كذلك بالنسبة إلى الكلام. نأخذ كل ما عند الآخرين. ولنا عقل وفكر، ولا نخشى شيئاً، فنفكر به ثم نختار الجيد والنافع منه ونطرح السيئ الرديء.

والآن ما هو أصل "خذوا الحكمة ولو من أهل الشرك" "أو ولو من أهل النفاق"؟ أصلها هو هذه الآية: (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله واولئك هم أولو الألباب).

حديث عن الإمام موسى الكاظم عليه السلام

هناك حديث للإمام الكاظم عليه السلام في كتاب "الكافي" يخاطب فيه هشام بن الحكم. وهشام أحد رواتنا ومن الباحثين في الاُصول كثيراً، وكان في زمانه "متكلماً" ولم يكن يرضى بتسميته "متكلماً" كان يعمل مع أهل الكلام ويباحث في التوحيد والنبوة والمعاد ويتفق الشيعة والسنة على أنه أحد متكلمي زمانه الأقوياء.

قبل فترة وبمناسبة كتابة كتاب "خدمات الإسلام وإيران المتقابلة" كنت أقرأ كتاب "تاريخ علم الكلام" لشبلي نعمان ـ وهو عالم هندي ألف كتاباً رائعاً ـ وبعد فترة رأيت في شرح حال أبي الهذيل العلاف وهو أحد المتكلمين المقتدرين وكان إيراني الأصل اسلم على يديه كثير من الإيرانيين الزرادشتيين "عبدة النار" أنه كتب:

"كان الجميع يخشى ويتجنب مباحثة أبي الهذيل، والشخص الوحيد الذي كان يتجنبه أبو الهذيل هو هشام بن الحكم".

المهم، إن هشاماً كان رجلاً قوياً. كان الإمام الكاظم عليه السلام يخاطب هشاماً دائماً بأن نشاطه عقلي وفني، ويدعوه عليه السلام إلى التفكير والتعقل كثيراً ويقول: يا هشام! إن الله تبارك وتعالى بشر أهل العقل والفهم في كتابه: (فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه...) تبين الآية الشريفة فائدة التحليل والغربلة وتمييز الحسن من السيئ وانها من خواص العقل. احدى خواص العقل تعلم العلم وهذا ليس مهماً، بل إنه عندما يبدأ بالتحليل وتمييز الحسن من السيئ في ذلك الوقت يبدأ العقل عمله بالمعنى الحقيقي.

كلام ابن سينا
لابن سينا جملتان في هذا المجال في كتاب "الاشارات" احداهما هي: "من تعود ان يصدق بغير دليل فقد انخلع من كسوة الإنسانية".

ومعنى ذلك أن لا يقبل الإنسان كل كلام بغير دليل يدل عليه ويقابله: "مَن تعود على انكار كل شيء بغير دليل، فهذا قبيح أيضاً"، يقول:

"كل ما قرع سمعك من العجائب فذره في بقعة الإمكان ما لم يزرك عنه قائم البرهان".

الإنسان الحقيقي هو الذي يكون قبوله وعدم قبوله قائماً على الدليل، وإن لم يوجد دليل يقول "لا أدري".

ضرورة التلازم بين العقل والعلم
الحديث طويل ومفصل جداً لكنني أذكر بعضه. ثم قال الإمام: لكن لا يجب الاكتفاء بالعقل وحده، بل يجب اقتران العقل والعلم، لأن العقل حالة غريزية وطبيعية توجد عند كل إنسان، لكن العلم، يربي العقل، فيجب أن يتربى العقل بالعلم. وفي حديث في نهج البلاغة يعبر عن العلم بالعقل المسموع، ويعبر عن العقل بالعلم المطبوع، أي يدعى العقل علماً والعلم عقلاً، بوجود فارق وهو أن أحدهما يسمى "مطبوع" أي فطري، والآخر "مسموع" أي مكتسب، وأكدّ كثيراً أن العقل المسموع والعلم المكتسب لا يكون مفيداً إلا أن يتحرك ويستعمل العقل المطبوع والعلم الفطري أي أن الإنسان الذي يأخذ فقط يكون كالمخزن. وهو مذموم في الروايات.

كلام "بيكن"
ننقل جملة مشهورة ورائعة عن "بيكن" يقول فيها: العلماء ثلاثة أصناف: فبعضهم كالنمل يجلب الحبوب من الخارج ويخزنها دائماً. فذهنهم مخزن، وفي الحقيقة انهم مسجل يسجل كل ما سمعوه. ومتى أردت ذكروا لك ما تعلموه. أما الصنف الثاني فهم كدودة القز تنسج من لعابها نسيجاً وتخرجه منها. وهذا أيضاً ليس عالماً حقيقياً لأنه لا يكتسب شيئاً من الخارج. يريد أن يصنع من خياله وباطنه، وعاقبته أن سيختنق داخل شرنقته. وأما الصنف الثالث فهم العلماء الحقيقيون. فهؤلاء كالنحلة، يمتصون رحيق الورد من الخارج ثم يصنعون العسل في داخلهم.

فمسألة العقل المسموع والمطبوع هي ما تبينها الرواية. فإذا لم يُضَمّ العلم المسموع إلى المطبوع لا يكفي ذلك. فما يكتسبه الإنسان من الخارج عليه أن يضيفه إلى القوة الباطنية وقوة التحليل ليصنع منه شيئاً مفيداً.

ثم قال الإمام عليه السلام: "يا هشام! ثم بَيَّن أن العقل مع العلم" أي يكون العقل ملازماً للعلم، ولهذا قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ4. . أي يجب أن يكون الإنسان عالماً أولاً ويهيئ المواد الأولية، ثم على العقل أن يحلل ويحقق. فلو كان لنا عقل قوي كابن سينا....، يقول القرآن ان "التاريخ" عبرة ودروس جيدة، لكنني لا أملك معلومات واطلاعاً عن التاريخ، فماذا يفهم عقلي؟ أو يقولون لنا: توجد علائم وآيات الله في عالم التكوين، إضافة إلى ذلك فإن عقلي من أقوى العقول أيضاً، لكنني جاهل بالمواد المستعملة في هذا البناء، فماذا أفهم بعقلي وكيف اكتشف آيات الله؟ يجب اكتشافها بالعلم وادراكها بالعقل.

مسألة التقليد
وهكذا قال عليه السلام: يا هشام: "ثم ذم الذين لا يعقلون" فقال: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ5.
لقد حارب القرآن مسألة التقليد بشدة، وهي بالاصطلاح المعاصر "اتباع سنة الماضين أي قبول ما كان سابقاً وحالة الاتباع والتقليد الأعمى للآباء والأسلاف لمجرد أنهم آباء وأجداد. إن كل نبي في مواجهته لأمته كان يؤكد مسألة خاصة ويدعو الناس إليها، ولكن هناك عدة أشياء مشتركة بيّنها الأنبياء جميعاً. فمثلاً التوحيد من الأمور المثبتة والمشتركة التي أكدها الأنبياء. إن تقليد السلف أدى بالجميع إلى القول: "إننا لن نقبل كلامك لأنه جديد، وقد رأينا آباءنا على دين آخر، ونحن نتبع سبيل آبائنا" فحالة التسليم في مقابل الماضين هي حالة مضادة للعقل. يريد القرآن من الإنسان أن يختار طريقه بحكم العقل، فمحاربة القرآن للتقليد بمعنى "اتباع السنة الماضية" هي لحماية العقل.

اتباع الأكثرية
أما الموضوع الآخر فهو موضوع العدد، فكما ان الإنسان يتبع الماضين كفصيل الحيوان، فانه عندما يكون امام الجماعة يسعى ليكون كالجماعة، يقولون "ان تخشى الفضيحة فكن كالجماعة". عندما تكون الجماعة مفتضحة، فالكون كالجماعة مفتضح أيضاً. لكن ميل الإنسان ليصبح كالجماعة شديد. يكثر هذا الأمر عند الفقهاء، فيستنبط فقيه ما مسألة لكنه لا يجرؤ على ابرازها فيبحث آراء فقهاء عصره، ليرى هل يوجد من يوافق رأيه أم لا؟ وقليل من الفقهاء من يجرؤ على إظهار فتواه مع عدم وجود موافق لها. أي أنه يستوحش عندما يرى نفسه وحيداً في الطريق وكل الأمور كذلك؟

ولكن الانفراد بالرأي اصبح شائعاً الآن، وان الغربيين اشاعوا ذلك، وافرطوا فيه، كل يسعى لأن يكون بشكل خاص ليقال: إنه ذو فكر جديد. تماماً بعكس القدماء الذين يخشون إظهار رأيهم لو انفردوا فيه ولأجل أن لا يقال بانهم وحيدون يعلنون ان هناك مجموعة موافقة لرأيهم، يصرح ابن سينا بأن كل ما أقوله هو من لسان أرسطو، لأنني لو قلت أنه منّي فسوف لن يقبله أحد. يصر "الملا صدرا" على ذكر كلام القدماء ويوجه كلامه به، لأن اتباع الجماعة كان شائعاً في ذلك الوقت. أما الآن فبالعكس، إذا ذكر شخص كلاماً كان قد قاله غيره فليست له أية قيمة. وعلى أية حال فإن القرآن يذم اعتبار الكثرة ملاكاً ويقول الكثرة ليست هي المعيار.

... يذم القرآن الكثرة حين يقول: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ6. وهذا شكل آخر لاستقلال العقل والدعوة إلى أن يكون العقل هو المعيار.

عدم الاهتمام بتشخيص الناس
يعقب الإمام على هذا الموضوع ويقول: يا هشام! لا تبالِ بكلام الناس ولا بتشخيصهم، يجب أن يكون التشخيص والتمييز هو تمييزك. يا هشام لو كان في يديك جوزة وقال الناس إنها لؤلؤة، ما كان ينفعك، وأنت تعلم أنها جوزة؟ ولو كان في يدك لؤلؤة وقال الناس إنها جوزة ما كان يضرك وأنت تعلم أنها لؤلؤة. أي عليك أن تتبع تشخيصك وعقلك وفكرك وتجعله دليلاً لك.

تاريخ التعقل من وجهة نظر المسلمين

كان البحث حول تربية الاستعداد العقلي والفكري، وأوضحنا أن الإسلام يستمد العون من العقل دائماً، أي عندما يدعو الناس فإنه يحرك عقولهم أيضاً، فلا يقول: إذا آمنتم لا تفكروا ولا تتعقلوا فإن التعقل لا يوصل الإنسان إلى شيء، وان الإيمان هو مرحلة غير التعقل والتفكير، وان على الإنسان أن يسلم أمره لتنكشف له حقيقة الإيمان، وما أشبه ذلك من الكلام الذي نراه في المسيحية بكثرة.

ولكن هناك موضوع يحسن بحثه ذلك أننا نشاهد ما يعاكس هذا الكلام، فالقرآن يقدّس العقل...، ولكن كثيراً ما يشاهد في منطق المسلمين تحقير العقل والعلم.

يحقر العقل كثيراً في أدبنا العرفاني وغيره، إضافة إلى ذلك حدثت وقائع في تاريخ الإسلام عرضت مسألة العقل فيها، أحدها حديث الأشعري والمعتزلي والأخرى مخالفة قياس أبي حنيفة في الفقه والثالثة مسألة العرفان والتصوف. هذه الحوادث الثلاث يجب بحثها. نواجه هنا ثلاثة مذاهب كل واحد منها يخالف العقل بطريقة ووجهة خاصة به وعندما ننتهي من هذه المذاهب الثلاثة، نجد أحاديث متفرقة لها حكم المثل الشائع بين الناس ولهذه الأمور أثر تربوي عظيم. وسنبدأ أولاً من هذه المتفرقات وبعد ذلك نشرع بعرض تلك المذاهب الثلاثة.

تحقير العقل في الأدب والأمثال السائدة بين الناس
ينتقد العقل والفهم أحياناً في هذه المتفرقات بأنهما عدو للإنسان، بمعنى أنه يسلب الراحة والهدوء من الإنسان. لماذا؟ لأنه إن لم يكن للإنسان عقل وفهم فانه لا يشعر ولا يحس بالهموم والآلام. مثلاً يقول الشعر المعروف:
عدو روحي، عقلي وفهمي      ليتها اغلقت عيني وأذني

ونقول أحياناً: "هنيئاً لفلان لأنه لا يفهم بعض الأمور" أو "هنيئاً لك، كم أنت مرتاح لعدم فهمك، أنا سيئ الحظ لأنني أحس وأفهم". يقول القرخي اليزدي وهو من الشعراء الثوريين في النصف التالي للقرن الأخير:

رأت أموراً لم تحسن رؤيتها، والله إن قاتلي هي عيني الناظرة.

وهناك كثير من هذه النماذج. فهل هذا المنطق صحيح أم لا؟

لو أردنا أخذ ذلك بعين الجد والاعتبار فهو غير صحيح. ان أغلب القائلين بهذا الكلام باصطلاح علماء معاني البيان، أرادوا توضيح وبيان ما يلزم الموضوع لا بيان نفس الموضوع، أي أن الذي يقول "عدو روحي هو عقلي وفهمي، ليس قصده هو انه يحسن ان اكون غير فاهم، بل يريد أن يقول: "الألم" موجود ولكن عندما يريد أن يقول أن "موجبات الألم" موجودة، فيبين ذلك بهذا التعبير: "رأت الأشياء التي يحسن أن لا تراها، فوالله ان قاتلي هي عيني الباصرة".

ينظر بذلك إلى الأمور الاجتماعية وأنه يرى القلة والنقصان في المجتمع. وهذه ستكون قاتلته، وقد قتلوه في النهاية. وانكم لو قلتم للسيد القرخي نفسه: هل ترجح أن تكون كفلان الذي لا يشعر ولا يدرك أي شيء وتحصل لك حالة عدم الاهتمام وعدم الاعتناء؟ لقال: كلا.

ويمكن أن يستدل بالعقل على ضد العقل، بان عقل الإنسان يسبب الاحساس بالألم والألم الذي هو سيئ وقبيح فكل شيء يسببه سيئ أيضاً.

والجواب عن هذا واضح: الألم الذي نسميه قبيحاً له فلسفة، الألم ليس حسناً بمعنى أن مسببه يجب أن لا يوجد. حينما نقول من الأفضل أن لا يوجد الألم نعني من الأفضل أن لا يوجد موجب الألم، وإلا فلو كان المسبب لكان النقص والمرض موجوداً. فالألم إعلان ومعرفة للإنسان. الألم الجسمي كذلك أيضاً. وإنما يحس الإنسان بداء في جسمه بسبب وجود ألم عنده، وبهذا المرض تعلن له الطبيعة (وجود نقص ما). كالضوء الأحمر الذي يضيء أمام السائق ويخبره بأن زيت السيارة قليل أو أن البترول على شرف الانتهاء. إن الإنسان يتألم عندما يقل زيت السيارة، سيحترق محرك السيارة الآن مثلاً. من البديهي أنه لا يمكن القول بأن إنارة الضوء الأحمر شيء قبيح، لأن هذا الضوء يخبر بوجود نقص في هذا المكان.

فإن لم يكن الألم، لم يشعر الإنسان بالنقص، وفي النتيجة لم يعالج العضو المريض. إذاً نفس الألم ليس قبيحاً، إنما القبيح هو ما يخبر عنه الألم. الألم هو سوط على الإنسان ليتابع العلاج. ولهذا فإن أسوأ الأمراض هو الذي لا ألم فيه، أي أنه يفاجئ ولا يخبر، كبعض الأمراض السرطانية التي يطلع عليها الإنسان في وقت متأخر لا فائدة فيه، ولو أنه علم به في اللحظة الأولى من الإصابة بالسرطان لكان قابلاً للعلاج.

عقل الإنسان وفهمه وإدراكه غير محكوم، لأنه منشأ الشعور بالألم. لأنه حاسة المعرفة والإعلان، وهو في النقطة المقابلة لعدم الاحساس. ولهذا فاننا نرى في أدبنا موضوعاً رائعاً جداً هو أننا لو اعتبرنا هذا "الانتقاد للعقل والفهم"، جدياً، فان ذلك، يقع في الطرف المقابل له، وهو مدح الألم: "إلهي أعطني قلباً عارفاً بالهموم والآلام". لماذا مدحوا الألم في مواضع أخرى؟

إنهم التفتوا إلى أن وجود الألم يعني وجود المعرفة والاطلاع، فالتألم هو سوط لأجل الحركة والبحث عن العلاج، وعدم التألم وفقدان الألم هو السكون وعدم الشعور. شعر رائع لمولوي في هذا المجال يقول: "الحسرة والبكاء الذي في المرض، هو يقظة وصحوة وقت المرض".

الآلام الموجودة حين المرض، وأحاسيس المريض، هي يقظة للمريض، تعلن للمريض أن اعلم ما بك مريض، ثم يقول: "إذاً اعلم أن هذا الأصل يا طالب الاُصول، ناله من هو مصاب بالألم". إن أصحاب الألم ذاقوا الحقيقة. والذي لا يحس بالالم هو موجود عديم الإحساس وجماد. "من كان كثير الألم فهو كثير الذكاء والصحوة، ومن كان كثير العلم والاطلاع فهو كثير الاصفرار في الوجه".

انتبهوا إلى هذه المسائل الإنسانية، فشخص لا أبالي، مشغول بحضيرته فقط. وكل ما يطرق سمعه لا يكترث به، ولا يهتم. وتمام همه أن يقضي أعماله وكما يقال: همه أن يعبر حماره الجسر. وعندما يعبر حماره "كما يقول جلال آل أحمد" لا يهمه انهدام الجسر، لأن حماره عبر على أية حال. ولكن تصوروا إنساناً متألماً ومريضاً في مقابل ذلك، فان الشيء الوحيد الذي لا يفكر به هو حماره.

تعبير أمير المؤمنين هنا هو "الألم" أيضاً يقول في الرسالة التي بعثها إلى عثمان بن حنيف:

وحسبك داءً ان تبيت ببطنةٍ    وحولك اكباد تحن إلى القدِّ


فهناك إنسان يحس بالألم عندما يرى الآخرين جياعاً وهو شبعان وبتعبير الإمام عليه السلام: "ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص"7. فهو شبعان في الكوفة في حين يوجد جائع في الحجاز على بعد مسافة أربعمائة فرسخ، إنه يحس بالألم لجوعه.

المرض والتألم ممدوح أم مذموم؟
والسؤال: هل وجود ذلك الألم أفضل أم الأفضل أن لا يشعر الإنسان بما يجري حوله، ولا يتأسف حتى وان ذبح جاره؟ إننا نعتبر الأول إنساناً متكاملاً لا الثاني، لأن ذلك التألم هو الاحساس والشعور وليس بمرض، ولا نقص، بل هو الكمال، أي أنه علامة ارتباطه مع الإنسان الآخر، يبين أنه في الحقيقة يشعر بأنه عضو من اعضاء جسد واحد، وأنه يتألم ويضطرب لأجل مرض وجرح العضو الآخر.

للرسول صلى الله عليه وآله وسلم جملة بهذا الصدد صاغها الشاعر سعدي شعراً: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"8. فعندما يتألم أحد الأسنان، فلا تقول سائر الأعضاء لا علاقة لنا بك، تحمل الألم وحدك حتى الموت. كلا، بل حينما يتألم عضو فإن سائر الأعضاء ستواسيه. كيف تواسيه؟ بالسهر والحمى. فعندما يتألم موضع فإن جميع البدن سيصاب بالحمى والسهر. يقول صلى الله عليه وآله وسلم: المؤمنون هكذا، مواساة وشعور، ولهذا لا وجود للنقص، بل هو عين الكمال.

فالمنطق المؤيد لعدم الشعور والإحساس بحجة أن الإحساس هو منشأ المرض والألم، منطق خاطئ، ومضاد للإنسانية، وإن الإسلام يرفضه ويثني على هذا النوع من الألم. ولكن إذا لم يكن الكلام جدياً، بل يريد الشخص بيان الموضوع على نحو الكناية، ويريد القول بأن في الخارج كذا وكذا، لكنه يبين ذلك بالعبارة المذكورة فلا إشكال في ذلك في هذه الحالة. كما نقول أحياناً: ليتني عميت ولم أر الشيء الفلاني" فالمقصود هو أن ذلك الشيء مؤلم جداً، بحيث أتمنى أن أفقد بصري ولا أراه، انه في الحقيقة يريد بيان قبح الشيء وفظاعته.

التعقل في رأي المعتزلة والأشاعر
لننتقل الآن إلى الحوادث التي أدت إلى ظهور مذاهب منها، المذهب الأشعري والمعتزلي. وان أكبر الضربات التي وجهت إلى تعقل المسلمين في تاريخ الإسلام كان من هذين المذهبين.
في أواسط القرن الثاني للهجرة ظهرت في عالم الإسلام حركتان حول التفكر في اُصول العقائد الإسلامية. ذهب بعض إلى أن العقل يمكنه أن يكون مقياساً وحده لإدراك اُصول العقائد الإسلامية. وعلينا أن نعرض جميع المسائل، المربوطة بالله والمعاد، والملائكة، والنبوة والأحكام وغيرها على العقل أولاً، وان العقل مقياس قطعي للإنسان. سميت هذه المجموعة ـ التي لها جذور تاريخية ـ بالمعتزلة. والمجموعة التي تقابلهم، هم الجماعة التي سميت "الأشاعرة" القائلين بضرورة التعبد والتسليم الكامل. وأنه لا يحق للعقل أن يتدخل في مسائل الإسلام.

الحسن والقبح العقليين
يرجع أصل هذا الكلام إلى موضوع "الحسن والقبح العقليين" المعروف. فاعتقد المعتزلة بأن للأفعال في حد ذاتها حسناً ذاتياً أو قبحاً ذاتياً، وان عقل الإنسان يدرك ذلك الحسن والقبح ومن هنا يكتشف حكم الإسلام، لأن حكم الإسلام لا يمكن أن يختلف عن العقل.

أقوى أمثلتهم على ذلك مسألة العدل والظلم. قالوا: العقل، يدرك حسن العدالة وأنه أمر ذاتي وليس مجهولاً، فلم يجعل أحد للعدالة حسناً كما لم يضع أحد للعدد أربعة خاصية الزوجة.

إن حسن العدل وقبح الظلم كذلك. والآن نأتي إلى الأفعال: هذا العمل ظلم، وبما أنه ظلم فهو قبيح قطعاً، ولأن الله تعالى لا يقبل القبيح إذاً فهو منهي عنه حتماً.

قال الأشاعرة: ليس للاشياء حسن وقبح ذاتي أبداً. ولا حكم للعقل في مثل هذه المسائل، الحسن والقبح أمران شرعيان. فكل ما أمر الله فهو حسن، لأن الله أمر به، لا أن الله أمر به لأنه حسن وكل ما نهى عنه تعالى، فإنه قبيح، لأن الله نهى عنه، وليس لكونه قبيحاً، فان الله نهى عنه.

قال المعتزلة: كل ما أمر به الله بما أنه كان حسناً فأمر به الله، إذاً حسنه مقدم على أمر الله، وحسنه علة لأمر الله. وقال الأشاعرة: كلا، بما أنه أمر به الله فهو حسن، وأمر الله هو علة الحسن، فعندما نقول: إن هذا العمل حسن يعني أن الله أمر به، وهكذا في النهي.

*التربية والتعليم في الاسلام،الشيخ مرتضى مطهري،دار الهادي، بيروت لبنان،ط4 1426هـ ـ2005م، ص169ـ190.


1- الزمر:17ـ 18
2- الجامع الصغير، ج1، ص44.
3- بحار الأنوار، ج2، ص96.
4-  العنكبوت: 43
5- البقرة:170
6- الأنعام:116
7- نهج البلاغة، الرسالة 45.
8- الجامع الصغير، ج2، ص155.

2010-03-02