يتم التحميل...

علاقة موضوع المعاد بقضية الروح

أدلة المعاد

يتألف بدن الإنسان من مجموعة (خلايا) كما هو الحال في جميع الحيوانات، وكل خلية منها في تحول وتبدل مستمرين، كما أن عدد الخلايا ليس ثابتا منذ الولادة حتى نهاية الحياة، ولا تجد إنسانا لا تتغير عناصر بدنه خلال حياته، أو أن عدد الخلايا يبقى ثابتا فيه...

عدد الزوار: 35

ملاك الوحدة في الكائن الحي
يتألف بدن الإنسان من مجموعة (خلايا) كما هو الحال في جميع الحيوانات، وكل خلية منها في تحول وتبدل مستمرين، كما أن عدد الخلايا ليس ثابتا منذ الولادة حتى نهاية الحياة، ولا تجد إنسانا لا تتغير عناصر بدنه خلال حياته، أو أن عدد الخلايا يبقى ثابتا فيه.

ومع ملاحظة هذه التغيرات والتحولات التي تتعرض لها أبدان الحيوانات وخاصة الإنسان، يبرز هذا السؤال: ما هو الملاك في إعتبار هذه المجموعة المتغيرة كائنا واحدا مع ما نلاحظ من إمكان تبدل أجزائه خلال الحياة أكثر من مرة؟.

والجواب البسيط الذي يجاب به عن هذا السؤال: أن ملاك الوحدة في كل كائن حي هو ارتباط الأجزاء في زمان واحد أو أزمنة متعددة، وهذه الخلايا وإن كانت تموت تدريجيا، لتحل محلها خلايا جديدة، ولكن مع ملاحظة إرتباط هذه الحالات والمراحل، فيما بينها لذلك يمكن إعتبار هذه المجموعة غير الثابتة موجودا واحدا.

ولكن هذا الجواب غير مقنع، لإننا لو إفترضنا عمارة مؤلفة من مجموعة من الحجارة وهذه الحجارة تتبدل بالتدريج، بصورة لا تبقى معها الحجارة السابقة تماما بعد فترة، لتحل موضعها حجارة جديدة، فلا يمكن لنا ان نعتبر مجموعة الحجارة الجديدة هي العمارة السابقة نفسها، وإن أستخدمت أمثال هذه التعبيرات في مثل هذا المجال بملاحظة الشكل الظاهري ومن باب المسامحة، وخاصة من أولئك الذين لم يعلموا بتغير أجزاء هذه المجموعة وتبدلها. ويمكن إكمال الجواب السابق بهذه الصورة: إن هذه التحولات التدريجية لا تضر بوحدة المجموعة في صورة حدوثها بسبب عامل طبيعي وداخلي، كما هو الملاحظ في الكائنات الحية. واما تبدل حجارة العمارة فقد تم بواسطة عامل خارجي وظاهري، لذلك لا يمكن نسبة الوحدة الحقيقية اليها على امتداد تبدل الأجزاء وتغيرها في الكائنات الحية بسبب وحدة عاملها الطبيعي.

وهذا الجواب يبتني على الإعتراف بوجود عامل طبيعي واحد، يبقى بنفسه دائما خلال مراحل التحولات، ويحافظ على إنتظام وإنسجام الأجزاء والأعضاء التي يتألف منها الجسم، ومن هنا يبرز السؤال حول هذا العامل نفسه، ما هي حقيقته؟ وما هو ملاك الوحدة فيه؟

ووفقا لنظرية فلسفية معروفة: فإن ملاك الوحدة في كل موجود طبيعي هو أمر بسيط (غير مركب) وغير محسوس، يسمى (الطبيعة) أو (الصورة) لا يتبدل خلال تبدلات المادة وتغيراتها، ويعبر عن هذا العامل بالنفس في خصوص الكائنات الحية التي تقوم بأفعال مختلفة ومتعددة كالتغذية والنمو والتكاثر.

والفلاسفة القدامي كانوا يعتبرون النفس النباتية والحيوانية (مادية) وأما النفس الإنسانية فهي (مجردة)، ولكن هناك الكثير من حكماء الإسلام، أمثال صدر المتألهين الشيرازي، ذهبوا إلى أن النفس الحيوانية تحتوي على مرتبة من التجرد أيضا، وإعتبروا الشعور والإرادة من لوازم وعلامات الموجود المجرد، ولكن الماديون الذين حصروا الوجود بالمادة وخواصها أنكروا الروح المجردة، والماديون الجدد (أمثال أصحاب الفلسفة الوضعية) أنكروا كل شي‏ء غير محسوس، وفي أقل التقادير، إعتقدوا بأن الأمر غير المحسوس لا يقبل الإثبات العلمي، ومن هنا لم يقبلوا بوجود الطبيعة أو الصورة غير المحسوسة، وبطبيعة الحال فإنهم لا يملكون علاجا صحيحا لملاك الوحدة في الكائنات الحية.

وعلى إعتبار القول بأن ملاك الوحدة في النباتات هو نفسها النباتية، فتكون الحياة النباتية مرهونة بوجود الصورة والنفس النباتية الخاصة في المواد المستعدة، وحين يزول الإستعداد عن هذه المواد، تنعدم الصورة أو النفس النباتية أيضا، وإذا إفترضنا حصول الإستعداد لتقبل الصورة النباتية في تلك المواد مرة أخرى، فإن نفسا نباتية جديدة تفاض عليها، ولكن على ضوء ذلك، لن تكون هناك وحدة حقيقية بين نبت قديم ونبت جديد بالرغم من وجود التشابه التام بينهما، أي لو نظرنا اليه نظرة فاحصة ودقيقة، فلا يمكن إعتبار النبت الجديد هو القديم.

وأما في مجال الحيوان والإنسان، فبما أن نفس كل منهما مجردة، فيمكن أن تبقى هذه النفس بعد ان يتلاشى البدن ويضمحل. وحين تتعلق من جديد بالبدن، يحتفظ الشخص بوحدته كما هو الحال قبل الموت، حين كانت وحدة الروح هذه هي الملاك في وحدة الشخص، وأما تبدل مواد البدن فلا يؤدي لتعدد الشخص ولكن إذا أعتقد احد بأن وجود الحيوان والإنسان محدد ومنحصر بهذا البدن المحسوس وخواصه وأعراضه، واعتبر الروح خاصة أو مجموعة من خواص البدن، وحتى لو اعتبر الروح صورة غير محسوسة ولكنها مادية، تنعدم إذا تلاشت اعضاء البدن واضمحلت فمثل هذا الشخص لا يمكن أن يكون عنه تصور صحيح عن المعاد، وذلك لأننا لوافترضنا أن البدن اكتسب إستعدادا جديدا للحياة، فستظهر فيه خواص وأعراض جديدة، وبناء على ذلك، فلا يملك الملاك الحقيقي لوحدته، لأن المفروض أن الخواص السابقة إنعدمت تماما ووجدت خواص جديدة.

والحاصل هو أننا يمكن أن نتصور للحياة بعد الموت صورة صحيحة ومقبولة، فيما لو إعتبرنا الروح غير البدن وخواصه وأعراضه، بل يلزم ايضا عدم إعتبار الروح صورة مادية تحل في البدن، وتنعدم إذا تلاشى البدن، إذن فيجب علينا أولاً أن نعترف بوجود الروح، وثانيا لا بد من أن نعتبر الروح أمراً جوهرياً، وليست من قبيل أعراض البدن، وثالثاً لا بد من أن نعتقد بأن الروح قابلة للإستقلال وللبقاء إذا تلاشى البدن، وليست كالصور الحالة (او بتعبير آخر، المنطبعة في المادة) حيث تنعدم إذا تلاشى البدن واضمحل.

موقع الروح في كيان الإنسان
والملاحظة الأخرى التي يلزم التنبيه عليها هنا هي أن تركيب الإنسان من الروح والبدن، ليس من قبيل تركيب مادة كيميائية من عنصرين، مثل تركيب الماء من الاوكسجين والهيدروجين، بحيث لو انفصل أحدهما عن الآخر، لانعدم الموجود المركب بصفته كلاً ومركباً، بل إن الروح هي العنصر الأصلي والأساس في الإنسان، ومادامت باقية، فإن إنسانية الإنسان وشخصية الشخص باقية، ومحتفظة بنفسها ومن هنا، فإن تغير خلايا البدن وتبدلها لا يضر بوحدة الشخص وذلك لأن ملاك الوحدة الحقيقية للإنسان هو وحدة روحه.

وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، عند جوابه عن المنكرين للمعاد، حين سألوا: كيف يمكن للإنسان أن يكتسب حياة جديدة بعد أن تتلاشى أجزاء بدنه؟ أجاب ﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بكُمْ(من الممكن ان يتوهم: ان الإستدلال عن طريق الوحي لإثبات مسائل الروح والمعاد استدلال دوري، وذلك لانه في البرهان الذي اقيم على ضرورة النبوة، اخذت الحياة الاخروية (المبتنية على مسألة الروح) (كأصل موضوعي)، إذن فإثبات هذا الأصل بنفسه من طريق الوحي والنبوة مستلزم للدور. ولكن يلزم ان نعلم أن صحة الإستدلال بالوحي لا تحتاج إلى مسألة (ضرورة النبوة) بل انها تتوقف على (وقوعها)، حيث يثبت عن طريق المعجزة وبما ان القرآن الكريم بنفسه معجزة ودليل على ان نبي الاسلام صلى الله عليه و سلم على حق، فيصح الإستدلال به لإثبات مسائل الروح والمعاد. إذن، فإنسانية كل إنسان وشخصيته متقومة بذلك الشي‏ء الذي يقبضة ملك الموت، ويستوفيه، لا أجزاء بدنه التي تتفرق وتتبعثر في الأرض.

*دروس في العقيدة الاسلامية ،إعداد ونشر جمعية المعارف الاسلامية الثقافية.ط1،ص220-223

2009-08-03